فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح و المحضورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه الفقير فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح و من العصمة ألا يقدر فكان المعطى أعظم أجرا من المعطي. قوله ع ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة بفتح النون و هي غضارة العيش و قد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر الخمر. قال تحلفون من غير اضطرار أي تتهاونون باليمين و بذكر الله عز و جل. قال و تكذبون من غير إحراج أي يصير الكذب لكم عادة و دربة لا تفعلونه لأن آخر منكم قد أحرجكم و اضطركم بالغيظ إلى الحلف و روي من غير إحواج بالواو أي من غير أن يحوجكم إليه أحد قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير هذا الكلام غير متصل بما قبله و هذه عادة الرضي رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا و لا يتلو بعضه بعضا و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول و قبل هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج. قوله ع ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء هذا حكاية كلام شيعته و أصحابه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 98ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال عن أيديكم هذه كناية عن النهي عن ارتكاب القبيح و ما يوجب الإثم و العقاب و الظهور هاهنا هي الإبل أنفسها و الأثقال المآثم و إلقاء الأزمة ترك اعتماد القبيح فهذا عمومه و أما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر و مخامرة العدو عليه و إضمار الغل و الغش له و عصيانه و التلوي عليه و قد فسره بما بعده فقال و لا تصدعوا عن سلطانكم أي لا تفرقوا فتذموا غب فعالكم أي عاقبته. ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة و فور النار غليانها و احتدامها و يروى ما استقبلكم. ثم قال و أميطوا عن سننها أي تنحوا عن طريقها و خلوا قصد السبيل لها(14/81)


أي دعوها تسلك طريقها و لا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها. ثم ذكر أنه قد يهلك المؤمن في لهبها و يسلم فيه الكافر كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى. ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضي ء بها من ولجها أي دخل في ضوئها. و آذان قلوبكم كلمة مستعارة جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا فقال
يدق على النواظر ما أتاه فتبصره بأبصار القلوب
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23499- و من خطبة له ع
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً وَ كَأَنَّ الآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ غَداً(14/82)


مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 100أعورتم أي انكشفتم و بدت عوراتكم و هي المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله و أعورك الصيد إذا أمكنك منه. قوله ع أوحشوا ما كانوا يوطنون أي أوطنوا قبورهم التي كانوا يوحشونها. قوله ع و اشتغلوا بما فارقوا أي اشتغلوا و هم في القبور بما فارقوه من الأموال و القينات لأنها أذى و عقاب عليهم في قبورهم و لولاها لكانوا في راحة و يجوز أن يكون حكاية حالهم و هم بعد في الدنيا أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال و المنازل بما فارقوه و أضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه. ثم ذكر أنهم لا يستطيعون فعل حسنة و لا توبة من قبيح لأن التكليف سقط و المنازل التي أمروا بعمارتها و المقابر و عمارتها الأعمال الصالحة و قوله ع إن غدا من اليوم قريب كلام يجري مجرى المثل قال غد ما غد ما أقرب اليوم من غد و الأصل فيه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. و قوله ع ما أسرع الساعات في اليوم إلى آخر الفصل كلام شريف وجيز بالغ في معناه و الفصل كله نادر لا نظير له
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 235101- و من خطبة له ع(14/83)


فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا(14/84)


هذا الفصل يحمل على عدة مباحث أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 102أحدها الإيمان الحقيقي و هو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني. الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية و يعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان و قد سمى ع هذا القسم باسم مفرد فقال إنه عواري في القلوب و العواري جمع عارية أي هو و إن كان في القلب و في محل الإيمان الحقيقي إلا أن حكمه حكم العارية في البيت فإنها بعرضة الخروج منه لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها. و الثالث ما ليس مستندا إلى برهان و لا إلى قياس جدلي بل على سبيل التقليد و حسن الظن بالأسلاف و بمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع و قد جعله ع عواري بين القلوب و الصدور لأنه دون الثاني فلم يجعله حالا في القلب و جعله مع كونه عارية حالا بين القلب و الصدر فيكون أضعف مما قبله. فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان القطعي قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا بأن يمعن النظر و يرتب البرهان ترتيبا مخصوصا فينتج له النتيجة اليقينية و قد يصير إيمان المقلد إيمانا جدليا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته و قد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي و لا يكون عالما بالبرهان فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين. فأما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده لا صاعدا و لا هابطا أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر و أما لا هابطا فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 103و المقدمات(14/85)

80 / 147
ع
En
A+
A-