وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاء تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 82أَوْ يَعْدِلَهُ لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً(14/66)
في هذا الفصل مباحث أولها أن الباري سبحانه لا يوصف بشي ء من الأجزاء أي ليس بمركب لأنه لو كان مركبا لافتقر إلى أجزائه و أجزاؤه ليست نفس هويته و كل ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة لكنه واجب الوجود فاستحال أن يوصف بشي ء من الأجزاء. و ثانيها أنه يوصف بالجوارح و الأعضاء كما يقول مثبتو الصورة و ذلك لأنه لو كان كذلك لكان جسما و كل جسم ممكن و واجب الوجود غير ممكن. و ثالثها أنه لا يوصف بعرض من الأعراض كما يقوله الكرامية لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض ليس بأن يحل فيه أولى من أن يحل هو في العرض لأن معنى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 83الحلول حصول العرض في حيز المحل تبعا لحصول المحل فيه فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول و ليس بأن يجعل محلا أولى من أن يجعل حالا. و رابعها أنه لا يوصف بالغيرية و الأبعاض أي ليس له بعض و لا هو ذو أقسام بعضها غيرا للبعض آخر و هذا يرجع إلى البحث الأول. و خامسها أنه لا حد له و لا نهاية أي ليس ذا مقدار و لذلك المقدار طرف و نهاية لأنه لو كان ذا مقدار لكان جسما لأن المقدار من لوازم الجسمية و قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم. و سادسها أنه لا انقطاع لوجوده و لا غاية لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن متوقفا على عدم سبب عدمه و كل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته و الباري تعالى واجب الوجوب فاستحال عليه العدم و أن يكون لوجوده انقطاع أو ينتهي إلى غاية يعدم عندها. و سابعها أن الأشياء لا تحويه فتقله أي ترفعه أو تهويه أي تجعله هاويا إلى جهة تحت لأنه لو كان كذلك لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشي ء الحاوي له لكن قد بينا أنه يستحيل عليه المقادير فاستحال كونه محويا. و ثامنها أنه ليس يحمله شي ء فيميله إلى جانب أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب لأن كل محمول مقدر و كل مقدر جسم و قد ثبأنه ليس بجسم. و تاسعها أنه ليس في الأشياء بوالج أي داخل و لا عنها(14/67)
بخارج هذا مذهب الموحدين و الخلاف فيه مع الكرامية و المجسمة و ينبغي أن يفهم قوله ع و لا عنها بخارج أنه لا يريد سلب الولوج فيكون قد خلا من النقيضين لأن ذلك محال بل المراد بكونه ليس خارجا عنها أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه و لكنه ذات موجودة متميزة بنفسها قائمة
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 84بذاتها خارجة عن الفلك في الجهة العليا بينها و بين الفلك بعد إما غير متناه على ما يحكى عن ابن الهيصم أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه و ذلك أن هذه القضية و هي قولنا الباري خارج عن الموجودات كلها على هذا التفسير ليست مناقضة للية الأولى و هي قولنا الباري داخل العالم ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين أ لا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا بألا يكون الفلك المحيط محتويا عليه و لا يكون حاصلا في جهة خارج الفلك و لو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك و هذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين لجواز ألا يكون زيد في الدار و لا في المسجد فإن هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار و الذي يستشنعه العوام من قولنا الباري لا داخل العالم و لا خارج العالم غلط مبني على اعتقادهم و تصورهم أن القضيتين تتناقضان و إذا فهم ما ذكرناه بان أنه ليس هذا القول بشنيع بل هو سهل و حق أيضا فإنه تعالى لا متحيز و لا حال في المتحيز و ما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة لا داخل العالم و لا خارج العالم و قد ثبت كونه غير متحيز و لا حال في المتحيز من حيث كان واجب الوجود فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج صواب و حق. و عاشرها أنه تعالى يخبر بلا لسان و لهوات و ذلك لأن كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر كما أن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب فكما لا يحتاج في كونه ضاربا إلى(14/68)
أداة و جارحة يضرب بها كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا إلى لسان و لهوات يخبر بها. و حادي عشرها أنه تعالى يسمع بلا حروف و أدوات و ذلك لأن الباري سبحانه حي لا آفة به و كل حي لا آفة به فواجب أن يسمع المسموعات و يبصر المبصرات شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 85و لا حاجة به سبحانه إلى حروف و أدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا و الباري تعالى حي لذاته فلما افترقنا فيما به كان سامعا و مبصرا افترقنا في الحاجة إلى الأدوات و الجوارح. و ثاني عشرها أنه يقول و لا يتلفظ هذا بحث لفظي و ذلك لأنه قد ورد السمع بتسميته قائلا و قد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة نحو قوله إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ و لم يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه و في إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة فوجب الاقتصار على ما ورد و ترك ما لم يرد. و ثالث عشرها أنه تعالى يحفظ و لا يتحفظ أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده و يعلمها و الثاني كونه يحفظهم و يحرسهم من الآفات و الدواهي و أما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام أي يتكلف كونه حافظا له و محيطا و عالما به كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه فهو سبحانه حافظ غير متحفظ و الثاني أنه ليس بمتحرز و لا مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره. و رابع عشرها أنه يريد و لا يضمر أما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة و كيفيات مخصوصة جاز أن تقع على خلافها فلا بد من مخصص لها بما اختصت به و ذلك كونه مريدا و أما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن فيه الشرع و فيه إيهام كونه ذا قلب لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب و الباري ليس بجسم.(14/69)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 86و خامس عشرها أنه يحب و يرضى من غير رقة و يبغض و يغضب من غير مشقة و ذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه و رضاه عنه أن يحمد فعله و هذا يصح و يطلق على الباري لا كإطلاقه علينا لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب و الباري ليس بجسم و أما بغضه للعبد فإرادة عقابه و غضبه كراهية فعله و وعيده بإنزال العقاب به و في الأغلب إنما يطلق ذلك علينا و يصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب و غليان دمه و الباري ليس بجسم. و سادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه كن فيكون من غير صوت يقرع و نداء يسمع هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل و إليه يذهب الكرامية و أتباعها من الحنابلة و غيرهم و الظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه حملا على ظاهر لفظ القرآن في مخاطبة الناس بما قد سمعوه و أنسوا به و تكرر على أسماعهم و أذهانهم فأما باطن الآية و تأويلها الحقيقي فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه. و سابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا هذا هو دليل المعتزلة على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن و ذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى أو موجب عن الأخص فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته و كان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات نحو العالمية و القادرية و غيرهما فكان إلها ثانيا. فإن قلت ما معنى قوله ع و مثله قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 87و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما و مثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان قد مثله للمكلفين(14/70)