قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين أحدهما قول من نصب القدمة و الأزلية و التكملة فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثان و المفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال و تكون منذ و قد و لو لا في موضع رفع بأنها فاعلة و تقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ على الآلات و الأدوات يمنعها عن كونها قديمة لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان كلفظة من لابتداء المكان و القديم لا ابتداء له و كذلك إطلاق لفظة قد على الآلات و الأدوات تحميها و تمنعها من كونها أزلية لأن قد لتقريب الماضي من الحال تقول قد قام زيد فقد دل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 77بقيامه و الأزلي لا يصح ذلك فيه و كذلك إطلاق لفظة لو لا على الأدوات و الآلات يجنبها التكملة و يمنعها من التمام المطلق لأن لفظة لو لا وضعت لامتناع الشي ء لوجود غيره كقولك لو لا زيد لقام عمرو فامتناع قيام ع إنما هو لوجود زيد و أنت تقول في الأدوات و الآلات و كل جسم ما أحسنه لو لا أنه فان و ما أتمه لو لا كذا فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الأدوات و الآلات محدثة ناقصة و المراد بالآلات و الأدوات أربابها. الوجه الثاني قول من رفع القدمة و الأزلية و التكملة فيكون كل واحد منها عنده فاعلا و تكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولا أولا و منذ و قد و لو لا مفعولا ثانيا و يكون المعنى أن قدم الباري و أزليته و كماله منعت الأدوات و الآلات من إطلاق لفظة منذ و قد و لو لا عليه سبحانه لأنه تعالى قديم كامل و لفظتا منذ و قد لا يطلقان إلا على محدث لأن إحداهما لابتداء الزمان و الأخرى لتقريب الماضي من الحال و لفظة لو لا لا تطلق إلا على ناقص فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قدم الباري تعالى و كماله و أنه لا يصح أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث و النقص. قوله ع بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر(14/61)


العيون أي بهذه الآلات و الأدوات التي هي حواسنا و مشاعرنا و بخلقه إياها و تصويره لها تجلى للعقول و عرف لأنه لو لم يخلقها لم يعرف و بها امتنع عن نظر العيون أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بالعيون لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا و بعقولنا استخرجنا الدلالة على أنه لا تصح رؤيته فإذن بخلقه الآلات و الأدوات لنا عرفناه عقلا و بذلك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 78أيضا عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل و أن قول من قال إنا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحا باطل. قوله ع لا تجري عليه الحركة و السكون هذا دليل أخذه المتكلمون عنه ع فنظموه في كتبهم و قرروه و هو أن الحركة و السكون معان محدثة فلو حلت فيه لم يخل منها و ما لم يخل من المحدث فهو محدث. فإن قلت إنه ع لم يخرج كلامه هذا المخرج و إنما قال كيف يجري عليه ما هو أجراه و هذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون قلت بل هو هو بعينه لأنه إذا ثبت أنه هو الذي أجرى الحركة و السكون أي أحدثهما لم يجز أن يجريا عليه لأنهما لو جريا عليه لم يخل إما أن يجريا عليه على التعاقب و ليسا و لا واحد منهما بقديم أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الآخر و الأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها و الثاني باطل بكلامه ع و ذلك لأنه لو كان أحدهما قديما معه سبحانه لما كان أجراه لكن قد قلنا أنه أجراه أي أحدثه و هذا خلف محال و أيضا فإذا كان أحدهما قديما معه لم يجز أن يتلوه الآخر لأن القديم لا يزول بالمحدث. ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته و لتجزأ كنهه و لامتنع من الأزل معناه هذا تأكيد لبيان استحالة جريان الحركة و السكون عليه تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا و هو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه و أيضا كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة لأن المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا و كل متحيز جسم و كل جسم منقسم أبدا و في هذا إشارة إلى نفي الجوهر الفرد.(14/62)


شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 79ثم قال ع و لكان له وراء إذا وجد له أمام هذا يؤكد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوهر الفرد يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما و لكان أحد وجهيه غير الوجه الآخر لا محالة فكان منقسما و هذا الكلام لا يستقيم إلا مع نفي الجوهر الف لأن من أثبته يقول يصح أن تحله الحركة و لا يكون أحد وجهيه غير الآخر فلا يلزم أن يكون له وراء و أمام. ثم قال ع و لا التمس التمام إذ لزمه النقصان هذا إشارة إلى ما يقوله الحكماء من أن الكون عدم و نقص و الحركة وجود و كمال فلو كان سبحانه يتحرك و يسكن لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون و واجب الوجود يستحيل أن يكون له حالة نقصان و أن يكون له حالة بالقوة و أخرى بالفعل. قوله ع إذا لقامت آية المصنوع فيه و ذلك لأن آية المصنوع كونه متغيرا منتقلا من حال إلى حال لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال إلى حال لتحقق فيه دليل الحدوث فكان مصنوعا و قد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه. قوله ع و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه يقول إنا وجدنا دليلنا على الباري سبحانه أنما هو الأجسام المتحركة فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره و كان فوقه صانع آخر صنعه و أحدثه لكنه سبحانه لا صانع له و لا ذات فوق ذاته فهو المدلول عليه و المنتهى إليه. قوله ع و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره في هذا الكلام يتوهم سامعه أنه عطف على قوله لتفاوتت و لتجزأ و لامتنع شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 80و لكان له و لالتمس و لقامت و لتحول و ليس كذلك لأنه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام و فسد لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى و المراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها. و قوله و خرج بسلطان الامتناع ليس من المستحيلاتليه بل هو واجب له و من الأمور الصادقة عليه فإذا فسد أن يكون معطوفا(14/63)


عليها وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه و تقدير الكلام كان يلزم أن يتحول الباري دليلا على غيره بعد أن كان مدلولا عليه و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره و خروجه بسلطان الامتناع المراد به وجوب الوجود و التجريد و كونه ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز فهذا هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه ما أثر في غيره من الأجسام و الممكنات
الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ(14/64)


هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح إلا قوله ع لم يلد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 81فيكون مولودا لأن لقائل أن يقول كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا في جوابه أنه ليس معنى الكلام أنه يلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع الآخر و كيف و آدم والد و ليس بمولود و ما المراد أنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا و التالي محال و المقدم محال و إنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا لأنه لو صح أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية و هو أن يتصور من بعض أجزائه حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقله في النطفة المنفصلة من الإنسان المستحيلة إلى صورة أخرى حتى يكون منها بشر آخر من نوع الأول لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله و ذلك لأن الأجسام متماثلة في الجسمية و قد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح في مواضعه التي هي أملك به و كل مثلين فإن أحدهما يصح عليه ما يصح على الآخر فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا. و أما بيان أنه لا يصح كونه مولودا فلأن كل مولود متأخر عن والده بالزمان و كل متأخر عن غيره بالزمان محدث فالمولود محدث و الباري تعالى قد ثبت أنه قديم و أن الحدوث عليه محال فاستحال أن يكون مولودا و تم الدليل(14/65)

76 / 147
ع
En
A+
A-