البحث في الوجود أنه لا بد من ذات يستحيل عدمها من حيث هي هي. فإن قلت كيف يحمل كلامه على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع و هذا يدخل فيه كثير من الأعراض كالألوان و إذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 71و هي قوله ع و كل قائم فيما سواه معلول لأنها للأعراض خاصة فيدخل أحد مدلول الفقرتين في الأخرى فيختل النظم قلت يريد ع بالفقرة الأولى كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع و ا يختص بالأجسام خاصة و لا يدخل الألوان و غيرها من الأعراض فيه لأنها متقومة بمحالها. و خامسها قوله و كل قائم في سواه معلول أي و كل شي ء يتقوم بغيره فهو معلول و هذا حق لا محالة كالأعراض لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها لكنها مفتقرة إلى المحل اذي يتقوم به ذواتها فإذا هي معلولة لأن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن فلا بد له من مؤثر. و سادسها قوله فاعل لا باضطراب آلة هذا لبيان الفرق بينه و بيننا فإننا نفعل بالآلات و هو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة. و سابعها قوله مقدر لا بجول فكرة هذا أيضا للفرق بيننا و بينه لأنا إذا قدرنا أجلنا أفكارنا و ترددت بنا الدواعي و هو سبحانه يقدر الأشياء على خلاف ذلك. و ثامنها قوله غني لا باستفادة هذا أيضا للفرق بيننا و بينه لأن الغني منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي و هو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير به غنيا و المراد بكونه غنيا أن كل شي ء من الأشياء يحتاج إليه و أنه سبحانه لا يحتاج إلى شي ء من الأشياء أصلا. و تاسعها قوله لا تصحبه الأوقات هذا بحث شريف جدا و ذلك لأنه سبحانه ليس بزمان و لا قابل للحركة فذاته فوق الزمان و الدهر أما المتكلمون فإنهم يقولون شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 72إنه تعالى كان و لا زمان و لا وقت و أما الحكماء فيقولون إن الزمان عرض قائم بعرض آخر و ذلك العرض الآخر قائم بجسم(14/56)


معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه فالزمان عندهم و إن كان لم يزل إلا أن العلة الأولى ليست واقعة تحته و ذلك هالمراد بقوله لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم و تفسيره على قول المتكلمين أولى. و عاشرها قوله و لا ترفده الأدوات رفدت فلانا إذا أعنته و المراد الفرق بيننا و بينه لأننا مرفودون بالأدوات و لولاها لم يصح منا الفعل و هو سبحانه بخلاف ذلك. و حادي عشرها قوله سبق الأوقات كونه إلى آخر الفصل هذا تصريح بحدوث العالم. فإن قلت ما معنى قوله و العدم وجوده و هل يسبق وجوده العدم مع كون عدم العالم في الأزل لا أول له قلت ليس يعني بالعدم هاهنا عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه أي غلب وجود ذاته عدمها و سبقها فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه أزلا و أبدا بخلاف الممكنات فإن عدمها سابق بالذات على وجودها و هذا دقيق
بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرْدِ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 73مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدّوَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَ تُشِيرُ الآْلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا
المشاعر الحواس قال بلعاء بن قيس
و الرأس مرتفع فيه مشاعره يهدي السبيل له سمع و عينان(14/57)


قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له و ذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام و هذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم. ثم قال و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له و ذلك لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به و تحله كان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له لأنه يستحيل أن يكون قائما بموضوع يحله كما تقوم المتضادات بموضوعاتها. ثم قال و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له و ذلك لأنه تعالى قرن بين العرض و الجوهر بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر و قرن بين كثير من الأعراض نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب و الكبد و نحو الإضافات التي يذكرها الحكماء كالبنوة و الأبوة و الفوقية و التحتية و نحو كثير من العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة و استحالة انفكاك أحد الأمرين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 74عن الآخر علمنا أنه لا قرين له سبحانه لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة لاستحال انفكاكه عنه فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه و كل محتاج ممكن فواجب الوجود ممكن هذا محال. ثم شرع في تفصيل المتضادات فقال ضاد النور بظلمة و هما عرضان عند كثير من الناس و فيهم من يجعل الظلمة عدمية. قال و الوضوح بالبهمة يعني البياض و السواد. قال و الجمود بالبلل يعني اليبوسة و الرطوبة. قال و الحرور بالصرد يعني الحرارة و البرودة و الحرور هاهنا مفتوح الحاء يقال إني لأجد لهذا الطعام حرورا و حرورة في فمي أي حرارة و يجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف أي و حرارة الحرور بالصرد و الحرور هاهنا يكون الريح الحارة و هي بالليل كالسموم بالنهار و الصرد البرد. ثم قال و إنه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات المتعاديات المتباينات و ليس المراد من تأليفه بينها جمعه إياها في مكان واحد كيف و ذلك مستحيل في نفسه بل هو سبحانه مؤلف(14/58)


لها في الأجسام المركبة حتى خلع منها صورة مفردة هي المزاج ألا ترى أنه جمع الحار و البارد و الرطب و اليابس فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة ليست حارة مطلقة و لا باردة مطلقة و لا رطبة مطلقة و لا يابسة مطلقة و هي المزاج و هو محدود عند الحكماء بأنه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة و هذا هو محصول كلامه ع بعينه. و العجب من فصاحته في ضمن حكمته كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها و يليق بها فأعطى المتباعدات لفظة مقرب لأن البعد بإزاء القرب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 75و أعطى المتباينات لفظة مقارن لأن البينونة بإزاء المقارنة و أعطى المتعاديات لفظة مؤلف لأن الائتلاف بإزاء التعادي. ثم عاد ع فعكس المعنى فقال مفرق بين متدانياتها فجعل الفساد بإزاء الكون و هذا من دقيق حكمته ع و ذلك لأن كل كائن فاسفلما أوضح ما أوضح في الكون و التركيب و الإيجاد أعقبه بذكر الفساد و العدم فقال مفرق بين متدانياتها و ذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع فإنه سيئول إلى الانحلال و التفرق. ثم قال لا يشمل بحد و ذلك لأن الحد الشامل ما كان مركبا من جنس و فصل و الباري تعالى منزه عن ذلك لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا فلم يكن واجب الوجود و قد ثبت أنه واجب الوجود و يجوز أن يعنى به أنه ليس بذي نهاية فتحويه الأقطار و تحده. ثم قال و لا يحسب بعد يحتمل أن يريد لا تحسب أزليته بعد أي لا يقال له منذ وجد كذا و كذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد و يحتمل أن يريد به أنه ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدد كما تعد الجواهر و كما تعد الأمور المحسوسة. ثم قال و إنما تحد الأدوات أنفسها و تشير الآلات إلى نظائرها هذا يؤكد معنى التفسير الثاني و ذلك لأن الأدوات كالجوارح إنما تحد و تقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير و كذلك إنما تشير الآلات و هي الحواس إلى ما كان نظيرا لها في الجسمية و(14/59)


لوازمها و الباري تعالى ليس بذي مقدار و لا جسم و لا حال في جسم فاستحال أن تحده الأدوات و تشير إليه الآلات
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 76مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدْ الْأَزَلِيَّةَ وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ وَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَ السكُونُ وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ(14/60)

75 / 147
ع
En
A+
A-