الاستدلال بإمكان الأعراض على ثبوت الصانع و الطرق إليه أربعة أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام. و الثاني الاستدلال بإمكان الأعراض و الأجسام. و الثالث الاستدال بحدوث الأعراض. و الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض. و صورة الاستدلال هو أن كل جسم يقبل للجسمية المشتركة بينه و بين سائر الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام فإذا اختلفت الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص خصص هذا الجسم بهذا العرض دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر و يكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض لأن الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح أحد طرفيها على الآخر فهذا هو معنى قوله فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل و النهار و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات و الألسن المختلفات أي أنه يمكن أن تكون هيئة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 65الشمس و ضوءها و مقدارها حاصلا لجرم القمر و يمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجرا و الشجر ذو الساق نباتا و يمكن أن يكون الماء صلبا و الحجر مائعا و يمكن أن يكون زمان الليمضيئا و زمان النهار مظلما و يمكن ألا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالا و يمكن ألا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة و يمكن ألا تكون هذه القلال طويلة و كذلك القول في اللغات و اختلافها و إذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات و الأعراض و الصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها فلا بد من أمر زائد و ذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا صانع العالم. ثم سفه آراء المعطلة و قال إنهم لم يعتصموا بحجة و لم يحققوا ما وعوه أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق. ثم أخذ في الرد عليهم من طريق أخرى و هي دعوى الضرورة و قد اعتمد عليها كثير من المتكلمين فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان. ثم قال و الجناية لا بد لها من(14/51)
جان و هذه كلمة ساقته إليها القرينة و المراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل و الذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها و أمير المؤمنين ع اعتمد أولا على طريق واحدة ثم جنح ثانيا إلى دعوى الضرورة و كلا الطريقين صحيح
وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 66حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ اقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً فَتَبَارَكَ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً وَ يُلْقِي بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً وَ يُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا(14/52)
قوله و أسرج لها حدقتين أي جعلهما مضيئتين كما يضي ء السراج و يقال حدقة قمراء أي منيرة كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء القمر. و بهما تقرض أي تقطع و الراء مكسورة. و المنجلان رجلاها شبههما بالمناجل لعوجهما و خشونتهما. و يرهبها يخافها و نزواتها وثباتها و الجد المحل شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 6ذكر غرائب الجراد و ما احتوت عليه من صنوف الصنعة
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب الحيوان من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصلد و الصخور الملس ثقة منها أنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها و معلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار و لا طرف ذنبه كحد السنان و لا لها من قوة الأسر و لا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به على الكدية خرج فيها كيف و هي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك و ليس في طرفها كإبرة العقرب و على أن العقرب ليس تخرق القمقم من جهد الأيد و قوة البدن بل إنما ينفرج لها بطبع مجعول هناك و كذاك انفراج الصخور لأذناب الجراد. و لو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلا بالتكلف الشديد و العقاب هي التي تنكدر على الذئب الأطلس فتقد بدابرتها ما بين صلاه إلى موضع الكاهل. فإذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها و انضمت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثها و صارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها و مربية و حافظة و صائنة و واقية حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر و ذلك لأنه يخرج من بيضه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 68أصهب إلى البياض ثم يصفر و تتلون فيه خطوط إلى السواد ثم يصير فيه خطوط سود و بيض ثم يبدو حجم جناحه ثم يستقل فيموج بعضه في بعض. قال أبو عثمان و عم قوم أن الجراد قد يريد الخضرة و دونه النهر الجاري فيصير بعضه جسرا لبعض حتى يعبر إلى الخضرة و أن ذلك حيلة منها. و ليس كما زعموا و لكن الزحف الأول من الدباء يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية(14/53)
صارت لعمري أرضا للزحف الثاني الذي يريد الخضرة فإن سموا ذلك جسرا استقام فأما أن يكون الزحف الأول مهد للثاني و مكن له و آثره بالكفاية فهذا ما لا يعرف و لو أن الزحفين جميعا أشرفا على النهر و أمسك أحدهما عن تكلف العبور حتى يمهد له الآخر لكان لما قالوه وجه. قال أبو عثمان و لعاب الجراد سم على الأشجار لا يقع على شي ء إلا أحرقه. فأما الحكماء فيذكرون في كتبهم أن أرجل الجراد تقلع الثآليل و أنه إذا أخذت منه اثنتا عشرة جرادة و نزعت رءوسها و أطرافها و جعل معها قليل آس يابس و شربت للاستسقاء كما هي نفعت نفعا بينا و أن التبخر بالجراد ينفع م عسر البول و خاصة في النساء و أن أكله ينفع من تقطيره و قد يبخر به للبواسير و ينفع أكله من لسعة العقرب. و يقال إن الجراد الطوال إذا علق على من به حمى الربع نفعه
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23269- و من خطبة له ع في التوحيدو تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَوَّلُهُ(14/54)
هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة أولها قوله ما وحده من كيفه و هذا حق لأنه إذا جعله مكيفا جعله ذا هيئة و شكل أو ذا لون و ضوء إلى غيرهما من أقسام الكيف و متى كان كذلك كان جسما و لم يكن واحدا لأن كل جسم قابل للانقسام و الواحد حقا لا يقبل الانقسام فقد ثبت أنه ما وحده من كيفه. و ثانيها قوله و لا حقيقته أصاب من مثله و هذا حق لأنه تعالى لا مثل له و قد دلت الأدلة الكلامية و الحكمية على ذلك فمن أثبت له مثلا فإنه لم يصب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 70حقيقته تعالى و السجعة الأخرى تعطي هذا المعنى أيضا من غير زيادة عليه هي قوله ع و لا إياه عنى من شبهه و لهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله و لا تتوجه عباداته و صلواته إلى الله تعالى لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثة و العبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه و لا عرفه و إنما يتخيل و يتوهم أنه قد عرفه و عبده و ليس الأمر كما تخيل و توهم. و ثالثها قوله ع و لا صمده من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقول الكرامية الصمد في اللغة العربية السيد و الصمد أيضا الذي لا جوف له و صار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه و الذي قال ع حق لأن من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية فإنه ما صمده لأنه ما نزهه عن الجهات بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام و كذلك من توهمه سبحانه أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه. و رابعها قوله كل معروف بنفسه مصنوع هذا الكلام يجب أن يتأول و يحمل على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع و ذلك لأن الباري سبحانه معروف من طريقين إحداهما من أفعاله و الأخرى بنفسه و هي طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو وجود فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود فلم يستدلوا عليه بأفعاله بل أخرج لهم(14/55)