يا مدهش الألباب و الفطن و محير التقوالة اللسن أفنيت فيك العمر أنفقه و المال مجانا بلا ثمن أتتبع العلماء أسألهم و أجول في الآفاق و المدن و أخالط الملل التي اختلفت في الدين حتى عابد الوثن و ظننت أني بالغ غرضي لما اجتهدت و مبرئ شجني و مطهر من كل رجس هوى بذاك و غاسل درني فإذا الذي استكثرت منه هو الجاني علي عظائم المحن فضللت في تيه بلا علم و غرقت في يم بلا سفن و رجعت صفر الكف مكتئبا حيران ذا هم و ذا حزن أبكي و أنكت في الثرى بيدي طورا و أدعم تارة ذقني و أصيح يا من ليس يعرفه أحد مدى الأحقاب و الزمن يا منت الوجوه و من قرنت له الأعناق في قرن آمنت يا جذر الأصم من الأعداد بل يا فتنة الفتن أن ليس تدركك العيون و أن الرأي ذو أفن و ذو غب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 53و الكل أنت فكيف يدركه بعض و أنت السر في العلو مما قلته في المعنى
ناجيته و دعوته اكشف عن عشا قلبي و عن بصري و أنت النورو ارفع حجابا قد سدلت ستوره دوني و هل دون المحب ستورفأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا قد رامه موسى فدك الطور
أعجبني هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت
حبيبي أنت من دون البرايا و إن لم أحظ منك بما أريدقنعت من الوصال بكشف حال فقيل ارجع فمطلبها بعيدأ لم تسمع جواب سؤال موسى و ليس على مكانته مزيدتعرض للذي حاولت يوما فدك الصخر و اضطرم الصعيد
و لي في هذا المعنى أيضا
قد حار في النفس جميع الورى و الفكر فيها قد غدا ضائعاو برهن الكل على ما ادعوا و ليس برهانهم قاطعامن جهل الصنعة عجزا فما أجدره أن يجهل الصانعا
و لي أيضا في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركة الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولا ليتشبه بالعقل المجرد في كماله و أن كل ما له بالقوة فهو خارج إلى الفعل
تحير أرباب النهى و تعجبوا من الفلك الأقصى لما ذا تحركافقيل بطبع كالثقيل إذا هوى و قيل اختيارا و المحقق شككافرد حديث الطبع إذ كان دائرا و ليس على سمت قويم فيسلكا(14/41)


شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 54و قيل لمن قال اختيارا فما الذي دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكافقالوا لوضع حادث يستجده يعاقب منه مطلبا ثم متركافقيل لهم هذا الجنون بعينه و لو رامه منا امرؤ كان أعفكاو لو أن إنسانا غدا ليس قصده سوى الوضع و استخراجه عد مضحكو لي أيضا في الرد على من زعم أن النبي ص رأى الله سبحانه بالعين و هو الذي أنكرته عائشة و العجب لقوم من أرباب النظر جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب
عجبت لقوم يزعمون نبيهم رأى ربه بالعين تبا لهم تباو هل تدرك الأبصار غير مكيف و كيف تبيح العين ما يمنع القلباإذا كان طرف القلب عن كنهه نبا حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى
و المقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه عن أن تحيط به العقول كثيرة موجودة في كتبي و مصنفاتي فلتلمح من مظانها و غرضنا بإيراد بعضها أن لها هنا تشييدا لما قاله أمير المؤمنين ع علي في هذا الباب.
قوله ع ليس بذي كبر إلى قوله و عظم سلطانا معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير و العظيم و قد ورد بهما القرآن العزيز و ليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم هذا الجسم أعظم و أكبر مقدارا من هذا الجسم بل المراد عظم شأنه و جلالة سلطانه. و الفلج النصرة و أصله سكون العين و إنما حركه ليوازن بين الألفاظ و ذلك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 55لأن الماضي منه فلج الرجل على خصمه بالفتح و مصدره الفلج بالسكون فأما من روى و ظهور الفلج بضمتين فقد سقط عنه التأويل لأن الاسم من هذا اللفظ الفلج بضم أول الكلمة فإذا استلها الكاتب أو الخطيب جاز له ضم الحرف الثاني. و صادعا بهما مظهرا مجاهدا و أصله الشق. و الأمراس الحبال و الواحد مرس بفتح الميم و الراء(14/42)


مِنْهَا فِي صِفَةِ عَجِيبِ خَلْقِ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا وَ فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 56فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْتِهَا فَاطِرٌ وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ غَامِضِ اختِلَافِ كُلِّ حَيٍّ وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ(14/43)


وَ الْخَفِيفُ وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا دَعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ
مدخولة معيبة و فلق شق و خلق و البشر ظاهر الجلد. قوله ع و صبت على رزقها قيل هو على العكس أي و صب رزقها عليها و الكلام صحيح و لا حاجة فيه إلى هذا و المراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا أي انحطت عليه و يروى و ضنت على رزقها بالضاد المعجمة و النون أي بخلت و جحرها بيتها. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 57قوله ع و في وردها لصدرها أي تجمع في أيام التمكن من الحركة لأيام العجز عنها و ذلك لأن النمل يظهر صيفا و يخفى في شدة الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد. قوله ع رزقها وفقها أي بقدر كفايتها و يروى مكفول برزقها مرزوقة بوها. و المنان من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلية أي هو كثير المن و الإنعام على عباده. و الديان المجازي للعباد على أفعالهم قال تعالى إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون و الحجر الجامس الجامد و الشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن
فصل في ذكر أحوال الذرة و عجائب النملة(14/44)


و اعلم أن شيخنا أبا عثمان قد أورد في كتاب الحيوان في باب النملة و الذرة و هي الصغيرة جدا من النمل كلاما يصلح أن يكون كلام أمير المؤمنين ع أصله و لكن أبا عثمان قد فرع عليه قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء و تتقدم في حال المهلة و لا تضيع أوقات إمكان الحزم ثم يبلغ من تفقدها و صحة تمييزها و النظر في عواقب أمورها أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف أن تعفن و تسوس في شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 58بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها و تعيد إليها جفوفها و يمر بها النسيم فينفي عنها اللخن و الفساد. ثم رب بل في الأكثر تختار ذلك العمل ليلا لأن ذلك أخفى و في القمر لأنها فيه أبصر فإن كان مكانها نديا و خافت أن تنبت الحبة نقرت موضع القطمير من وسطها لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت و ربما فلقت الحبة نصفين فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس و لها مع لطافة شخصها و خفة وزنها في الشم و الاسترواح ما ليس لشي ء فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد فيسقط من يده الواحة أو صدر واحدة و ليس بقربه ذرة و لا له عهد بالذر في ذلك المنزل فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت و خلفها كالخيط الأسود الممدود حتى يتعاون عليها فيحملنها فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع ثم انظر إلى بعد الهمة و الجرأة على محاولة نقل شي ء في وزن جسمها مائة مرة و أكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة و ليس شي ء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غير. فإن قال قائل فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة فعجزت هي التي(14/45)

72 / 147
ع
En
A+
A-