ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد الذاتية و تلك الصفة هي وجوده فقد اتضح المراد الآن. فإن قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل بأن يريد بقوله و بحدوث خلقه على وجوده أي على صحة إيجاده له فيما بعد أي إعادته بعد العدم يوم القيامة لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء صح منه إيجاده ثانيا على وجه الإعادة لأن الماهية قابلة للوجود و العدم و القادر قادر لذاته فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها و المعنى على هذا ظاهر لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم و مذهب أكثر المتكلمين أنه خلق العالم جودا و إنعاما و إحسانا إليهم. قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له هذا دليل صحيح و ذلك لأنه إذا ثبت أن جسما ما محدث ثبت أن سائر الأجسام محدثة لأن الأجسام متماثلة و كل ما صح على الشي ء صح على مثله و كذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث ثبت أن سائر السوادات و البياضات محدثة لأن حكم الشي ء حكم مثله و السواد في معنى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 47كونه سوادا غير مختلف و كذلك البياض فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضا و هي محدثة فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها و لكان محدثا لأن حكم الشي ء حكم مثله لكنه تعالى ليس بمحدث فليس بمشابه لشي ءا فقد صح إذا قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له. قوله ع الذي صدق في ميعاده لا يجوز ألا يصدق لأن الكذب قبيح عقلا و الباري تعالى يستحيل منه من جهة الداعي و الصارف أن يفعل القبيح. قوله ع و ارتفع عن ظلم عباده هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة و عن أمير المؤمنين ع أخذوه و هو أستاذهم و شيخهم في العدل و التوحيد فأما الأشعرية فإنها و إن كانت تمتنع عن إطلاق القول بأن الله تعالى يظلم العباد إلا أنها تعطي المعنى في الحقيقة لأن الله(14/36)


عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم إلا ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على أن يكلفهم ما يطيقونه و ذلك لأن القدرة عندهم مع الفعل فالقاعد غير قادر على القيام و إنما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام و يستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى بإقدار العبد القاعد على القيام و هو مع ذلك مكلف له أن يقوم و هذا غاية ما يكون من الظلم سواء أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها. ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيدا فقال حدوث الأشياء دليل على قدمه و كونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته و كونها فانية دليل على بقائه. فإن قلت أما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم فكيف يكون الاستدلال على الأمرين الأخيرين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 48قلت إذا شاركه سبحانه بعض الموجودات في كونه موجودا و افترقا في أن أحدهما لا يصح منه فعل الجسم و لا الكون و لا الحياة و لا الوجود المحدث و يصح ذلك من الموجودات القديمة دل على افتراقهما فأمر لأجله صح من القديم ذلك و تعذر ذلك على المحدث و ذلك الأمر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا و ينبغي أن تحمل لفظة العجز هاهنا على المفهوم اللغوي و هو تعذر الإيجاد لا على المفهوم الكلامي. و أما الاستدلال الثاني فينبغي أن يحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوي و هو تغير الصفات و زوالها لا على المفهوم الكلامي فيصير تقدير الكلام لما كانت الأشياء التي بيننا تتغير و تتحول و تنتقل من حال إلى حال و علمنا أن العلة المصححة لذلك كونها محدثة علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل و التغير لأنه ليس بمحدث ثم قال واحد لا بعدد لأن وحدته ذاتية و ليست صفة زائدة عليه و هذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة و ليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله. ثم قال دائم لا بأمد لأنه تعالى ليس بزماني و داخل تحت الحركة و الزمان و هذا أيضا من دقائق العلم الإلهي و(14/37)


العرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به و لكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى بالفيض المقدس و الأنوار الربانية. ثم قال قائم لا بعمد لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه أبان ع تنزيهه تعالى عن المكان و عما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظة و معنى القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولك فلان قائم بتدبير البلد و قائم بالقسط. ثم قال تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة أي تتلقاه تلقيا عقليا ليس كما يتلقى الجسم الجسم بمشاعره و حواسه و جوارحه و ذلك لأن تعقل الأشياء و هو حصول صورها(14/38)


شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 49في العقل بريئة من المادة و المراد بتلقيه سبحانه هاهنا تلقي صفاته لا تلقي ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول و سيأتي إيضاح أن هذا مذهبه ع. ثم قال و تشهد له المرائي لا بمحاضرة المرائي جمع مرئي و هو الشي ء المدرك بالبيقول المرئيات تشهد بوجود الباري لأنه لو لا وجوده لما وجدت و لو لم توجد لم تكن مرئيات و هي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الأبصار لأنها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فيها و أما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق بل بما ذكرناه و الأولى أن يكون المرائي هاهنا جمع مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس. قوله ع لم تحط به الأوهام إلى قوله ع و إليها حاكمها هذا الكلام دقيق و لطيف و الأوهام هاهنا هي العقول يقول إنه سبحانه لم تحط به العقول أي لم تتصور كنه ذاته و لكنه تجلى للعقول بالعقول و تجليه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته الإضافية و السلبية لا غير و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته فأما غير ذلك فلا و ذلك لأن البحث النظري قد دل على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافة و السلب أما الإضافة فكقولنا عالم قادر و أما السلب فكقولنا ليس بجسم و لا عرض و لا يرى فأما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي فإن العقل لا يتصورها و هذا مذهب الحكماء و بعض المتكلمين من أصحابنا و من غيرهم. ثم قال و بالعقول امتنع من العقول أي و بالعقول و بالنظر علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول. ثم قال و إلى العقول حكم العقول أي جعل العقول المدعية أنها أحاطت شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 50به و أدركته كالخصم له سبحانه ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدعية لما ليست أهلا له. و اعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري و الوقوف(14/39)


عند حد محدود لا يتجاوزه العقل قول ما زال فضلاء عقلاء قائلين به
من أشعار الشارح في المناجاة
و من شعري الذي أسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي و انقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولي
و الله لا موسى و لا عيسى المسيح و لا محمدعلموا و لا جبريل و هو إلى محل القدس يصعدكلا و لا النفس البسيطة لا و لا العقل المجردمن كنه ذاتك غير أنك واحدي الذات سرمدوجدوا إضافات و سلبا و الحقيقة ليس توجدو رأوا وجودا واجبا يفنى الزمان و ليس ينفدفلتخسأ الحكماء عن جرم له الأفلاك تسجدمن أنت يا رسطو و من أفلاط قبلك يا مبلدو من ابن سينا حين قرر ما بنيت له و شيدهل أنتم إلا الفراش رأى الشهاب و قد توقدفدنا فأحرق نفسه و لو اهتدى رشدا لأبعد
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 51و مما قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه و تعالىفيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلاأنت حيرت ذوي اللب و بلبلت العقولاكلما أقدم فكري فيك شبرا فر ميلاناكصا يخبط في عمياء لا يهدى السبيلا
و لي في هذا المعنى
فيك يا أغلوطة الفكر تاه عقلي و انقضى عمري سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفررجعت حسرى و ما وقفت لا على عين و لا أثرفلحى الله الألى زعموا أنك المعلوم بالنظركذبوا إن الذي طلبوا خارج عن قوة البشرو قلت أيضا في المعنى
أفنيت خمسين عاما معملا نظري فيه فلم أدر ما آتي و ما أذرمن كان فوق عقول القائسين فما ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر
و لي أيضا
حبيبي أنت لا زيد و عمرو و إن حيرتني و فتنت ديني طلبتك جاهدا خمسين عاما فلم أحصل على برد اليقين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 52فهل بعد الممات بك اتصال فأعلم غامض السر المصون نوى قذف و كم قد مات قبلي بحسرته عليك من القرو من شعري أيضا في المعنى و كنت أنادي به ليلا في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع و أجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري مطلقا من قيود الأهل و الولد و علائق الدنيا(14/40)

71 / 147
ع
En
A+
A-