كان صالح المري يقول كثيرا ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول أغلق هذا الباب حتى يستفتح فقال صالح شيخ جهل و امرأة علمت. و قيل فائدة الدعاء إظهار الفاقة من الخلق و إلا فالرب يفعل ما يشاء. و قيل دعاء العامة بالأقوال و دعاء العابد بالأفعال و دعاء العارف بالأحوال. و قيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان و الوجد. و قيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار لقوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ. قال أصحاب هذه الطريقة ألسنة المبتدءين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء و ألسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك. و كان عبد الله بن المبارك يقول ما دعوته منذ خمسين سنة و لا أريد أن يدعو لي أحد. و قيل الدعاء سلم المذنبين. و قال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة و ما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد. و قالوا ألسنة المذنبين دموعهم. و كان أبو علي الدقاق يقول إذا بكى المذنب فقد راسل الله. و في معناه أنشدوا
دموع الفتى عما يجن تترجم و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 231و قال بعضهم لبعض العارفين ادع لي فقال كفاك من الإجابة ألا تجعل بينك و بينه واسطة. و منها التأسي قال سبحانه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي في مصابه و ما نيل منه في نفسه و في أهله يوم أحد فلا تجزع أن أصيب بعضكم. و
جاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم و انظروا إلى من دونكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم
و قالت الخنساء ترثى أخاها(12/191)


و لو لا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي و ما يبكون مثل أخي و لكن أعزي النفس عنه بالتأسيو حقيقة التأسي تهوين المصائب و النوائب على النفس بالنظر إلى ما أصاب أمثالك و من هو أرفع محلا منك. و قد فسر العلماء قوله تعالى وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه و إن تأسى بغيره من المعذبين لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا و لم يجعله نافعا لأهل النار مبالغة في تعذيبهم و نفيا لراحة تصل إليهم. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 232و منها الفقر و هو شعار الصالحين قال رسول الله ص اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني مع المساكين
قال لعلي ع إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها وهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما. و
جاء في الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة
و سئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال ألا تستغني إلا بالله. و
قال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم أحب إلي من مجالسة الغني لأني سمعت رسول الله ص يقول إياكم و مجالسة الموتى فقيل له و ما الموتى قال الأغنياء
قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا إنما يجيع أولياءه. و قيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر. و قال الشبلي أدنى علامات الفقير أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد ثم خطر بباله لو أمسكت منها قوت يوم آخر لم يصدق في فقره. سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا و عاد فقال كانت عندي أربعة دوانيق فضة فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر و هي عندي فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر. و قال أبو علي الدقاق في تفسير
قوله ص من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه(12/192)


إن المرء بقلبه و لسانه و جوارحه فمن تواضع لغني بلسانه و جوارحه ذهب ثلثا دينه فإن تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 233و منها الأدب قالوا في تفسير قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى حفظ أدب الحضرة. قيل إنه ع لم يمد نظره ف المقام الذي أوصل إليه ليلة شاهد السدرة و هي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البشريون. و
في الحديث المرفوع أدبني ربي فأحسن تأديبي
و قيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة و كان يقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق. و قال أبو علي الدقاق من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل. و
من كلامه ع ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب و من أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب(12/193)


و قال عبد الله بن المبارك قد أكثر الناس في الأدب و عندي أن الأدب معرفة الإنسان بنفسه. و قال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت. و قال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قال لم يقل فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب و كذلك قال في قول عيسى إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ قال لم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 234و منها المحبة و هي مقام جليل قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شي ء. قلبعض العرب ما وجدت من حب فلانة قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس. و قال أبو عبد الرحمن السلمي المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك. و قال النصرآباذي المحبة نوعان نوع يوجب حقن الدماء و نوع يوجب سفك الدماء. و قال يحيى بن معاذ المحبة الخالصة ألا تنقص بالجفاء و لا تزيد بالبر. و قيل للنصرآباذي كيف حالك في المحبة قال عدمت وصال المحبين و رزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فيها ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال. و أنشدوا
و من كان في طول الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق و أكثر شي ء نلته من وصالها أماني لم تصدق كلمحة بارو جاء في الحديث المرفوع المرء مع من أحب
و لما سمع سمنون هذا الخبر قال فاز المحبون بشرف الدنيا و الآخرة لأنهم مع الله تعالى. و
في الحديث المرفوع لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله
و هذا يتجاوز حد الجلالة و الشرف. و كان يقال الحب أوله ختل و آخره قتل. قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد سكرت من كثرة ما شربت من محبته فكتب إليه أبو زيد غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد و لسانه خارج و هو يقول هل من مزيد. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص 235و أنشد(12/194)


عجبت لمن يقول ذكرت حبي و هل أنسى فأذكر ما نسيت شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب و لا رويتو قيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف. و أنشدوا
فأسكر القوم دور كأس و كان سكري من المدير
و منها الشوق جاء في الخبر المرفوع أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي و سلمان و عمار
الشوق مرتبة من مراتب القوم و مقام من مقاماتهم سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبة فقال المحبة لأن الشوق منها يتولد. و
من الأدعية النبوية المأثورة الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه اللهم بعلمك بالغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الغنى و الفقر و أسألك نعيما لا يبيد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بعد القضاء و برد العيش بعد الموت و أسألك النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين
قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب و على قدر المحبة يكون الشوق و علامة الشوق حب الموت. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 236و هذا هو السر في قوله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي أن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه فمن لا يتمنى ذ لا يكون صادق المحبة. قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه فقال إنما الشوق إلى غائب و هو حاضر لا يغيب. و قالوا في قوله تعالى مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ إنه تطيب لقلوب المشتاقين. و
يقال إنه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا و زمرنا لكم فلم ترقصوا و خوفناكم فلم ترهبوا و نحنا لكم فلم تحزنوا(12/195)

7 / 147
ع
En
A+
A-