شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 224و في حديث أبي هريرة أن الله ليغار و أن المؤمن ليغارقال و الغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك. و قيل الغيرة الأنفة و الحمية. و حكي عن السري أنه قرئ بين يديه وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة و لا أحد أغير من الله. قالوا و معنى حجاب الغيرة أنه لما أصر الكافرون على الجحود عاقبهم بأن لم يجعلهم أهلا لمعرفة أسرار القرآن. و قال أبو علي الدقاق إن أصحاب الكسل عن عبادته هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان فاختار لهم البعد و أخرهم عن محل القرب و لذلك تأخروا. و في معناه أنشدوا فقالوا
أنا صب بمن هويت و لكن ما احتيالي في سوء رأي الموالي
و في معناه قالوا سقيم لا يعاد و مريد لا يراد. و كان أبو علي الدقاق إذا وقع شي ء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيرة الحق يريد به ألا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت. و أنشدوا في معناه همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرأة نهانا وجهها الحسن
و قيل لبعضهم أ تريد أن تراه قال لا قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي و في معناه أنشدوا
إني لأحسد ناظري عليك حتى أغض إذا نظرت إليك
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 225و أراك تخطر في شمائلك التي هي فتنتي فأغار منك عليكو سئل الشبلي متى تستريح قال إذا لم أر له ذاكرا. و قال أبو علي الدقاق في
قول النبي ص عند مبايعته فرسا من أعرابي و أنه استقاله فأقاله فقال الأعرابي عمرك الله فمن أنت قال ص أنا امرؤ من قريش فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي كفاك جفاء ألا تعرف نبيك(12/186)
فكان أبو علي يقول إنما قال امرؤ من قريش غيرة و نوعا من الأنفة و إلا فقد كان الواجب عليه أن يتعرف لكل أحد أنه من هو لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي بقوله كفاك جفاء ألا تعرف نبيك. و قال أصحاب الطريقة مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك توجب الغيرة منه تعالى. أذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين قال و حقك لو لا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك. و سمع رجل رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا. و كان بعض العارفين يقول لا إله إلا الله من داخل القلب محمد رسول الله من قرط الأذن. و قيل لأبي الفتوح السهروردي و قد أخذ بحلب ليصلب على خشبة ما الذي أباحهم هذا منك قال إن هؤلاء دعوني إلى أن أجعل محمدا شريكا لله في الربوبية فلم أفعل فقتلوني. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 226و منها التفويض قال الله تعالى وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ كُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه و أفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح. و قال تعالى فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فبعث على تأكيد الرجاء بقوله خَيْراً كَثِيراً. و لما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ كما ورد في الكتاب العزيز. و حقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فأس التفويض و الباعث عليه هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر و أنه لا يكون في الخير و الشر أعني الرخص و الصحة و سعة الرزق و البلايا و الأمراض و(12/187)
العلل و ضيق الرزق إلا ما أراد الله تعالى كونه و لا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك و لم يعلمه علم اليقين. و قد بالغ النبي ص في التصريح به و النص عليه
بقوله لعبد الله بن مسعود ليقل همك ما قدر أتاك و ما لم يقدر لم يأتك و لو جهد الخلق أن ينفعوك بشي ء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه و لو جهدوا أن يضروك بشي ء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 227و في صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له فإن أصابك شي ء فلا تقل لو فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان و لكن قل ما قدر الله و ما شاء فعو في صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعك فقل كذا إلى أن قال وجهت وجهي إليك و ألجأت ظهري إليك رغبة و رهبة إليك لا منجى و لا ملجأ منك إلا إليك
و كان يقال معارضة المريض طبيبه توجب تعذيبه و كان يقال إنما الكيس الماهر من أمسى في قبضة القاهر. و كان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة فما من أعوان تقوده إلى الحيلة. و كان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر. و كان يقال من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب و مدبر مربوب أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب و يعمى عليه الصواب المطلوب. و إذا كان كذلك فربما كان تدميره في تدبيره و اغتياله من احتياله و هلكته من حركته. و في ذلك أنشدوا(12/188)
أيا من يعول في المشكلات على ما رآه و ما دبره إذا أعضل الأمر فافزع به إلى من يرى منه ما لم تره تكن بين عطف يقيل الخطوب و لطف يهون ما قدره إذا كنت تجهل عقبى الأمور و ما لك حول و لا مقدره فلم ذا العنا و علام الأسى و مم الحذار و فيم ال شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 228و أنشدوا في هذا المعنىيا رب مغتبط و مغبوط بأمر فيه هلكه و منافس في ملك ما يشقيه في الدارين ملكه علم العواقب دونه ستر و ليس يرام هتكه و معارض الأقدار بالآراء سيئ الحال ضنكه فكن امرأ محض اليقين و زيف الشبهات سبكه تفويضه توحيده و عناده المقدار و منها الولاية و المعرفة و قد تقدم القول فيهما. و منها الدعاء و المناجاة قال الله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و
في الحديث المرفوع الدعاء مخ العبادة
و قد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجة و مستروح أصحاب الفاقات و ملجأ المضطرين و متنفس ذوي المآرب. و قد ذم الله تعالى قوما فقال وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ فسروه و قالوا لا يمدونها إليه في السؤال. و قال سهل بن عبد الله التستري خلق الله الخلق و قال تاجروا في فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي. قالوا و قد أثنى الله على نفسه فقال أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ قالوا الدعاء إظهار فاقة العبودية. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 22 قال أبو حاتم الأعرج لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة. و قال قوم بل السكوت و الخمود تحت جريان الحكم و الرضا بما سبق من اختيار الحكيم العالم بالمصالح أولى و لهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل خير لك من معارضة الوقت. و
قال النبي ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين(12/189)
و قال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه و صاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا. و قال قوم إن الأوقات تختلف ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت و في بعض الأحوال يكون بالعكس و إنما يعرف هذا في الوقت لأن علم الوقت يحصل في الوقت فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى و إن وجد بقلبه الإشارة إلى السكوت فالسكوت له أتم و أولى. و
جاء في الخبر أن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته و أنه يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته
و من أدب الدعاء حضور القلب
فقد روي عنه ص أن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه
و من شروط الإجابة طيب الطعمة و حل المكسب
قال ص لسعد بن أبي وقاص أطب كسبك تستجب دعوتك
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 230و ينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفةقيل لجعفر بن محمد الصادق ع ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه(12/190)