شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 246و قوله لم يخاف أن يرمى بالحجارة و هو لم يدرأ الحد عن مستحق له جوابه أن هذا القول يجري مجرى التهويل و التخويف للمغيرة كيلا يقدم على أن يعرض نفسه لشبهه فيما بعد. فأما قول قاضي القضاة أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله و قول المرتضى معترضا عليه إن كونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد فغير لازم لأن قاضي القضاة ما جعل كونه واليا من قبله مقتضيا أن يدرأ عنه الحد و إنما قاله في جواب من أنكر على عمر محبته لدرء الحد عنه فقال إنه غير قبيح و لا يحرم محبة درء الحد عنه لأنه وال من قبله فجعل الولاية للبصرة مسوغة لمحبة عمر لدفع الحد عنه لا مسوغة لدفع الحد عنه و بين الأمرين فرق واضح. و أما قول المرتضى إن الشرع حظر كتمان الشهادة فصحيح فيما عدا الحدود فأما في الحدود فلا و قد ورد
في الخبر الصحيح من رأى على أخيه شيئا من هذه القاذورات و ستر ستره الله يوم يفتضح المجرمون
فأما قول المرتضى هب أن الحد سقط أ ما اقتضت الحال تأديب المغيرة بنوع من أنواع التعزير و إن خف فكلام لازم لا جواب عنه و لو فعله عمر لبرئ من التهمة براءة الذئب من دم يوسف و ما أدري كيف فاته ذلك مع تشدده في الدين و صلابته في السياسة و لعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لا نعلمه
الطعن السابع(13/201)
أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية و روي شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 247مائة قضية و أنه كان يفضل في القسمة و العطاء و قد سوى الله تعالى بين الجميع و أنه قال في الأحكام من جهة الرأي و الحدس و الظن. أجاب قاضي القضاة عن ذلك فقال مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف و الرجوع عن رأي إلى رأي بحسب الأمارات و غالب الظن و قد ذكر أن ذلك طريقة أمير المؤمنين ع في أمهات الأولاد و مقاسمة الجد مع الإخوة و مسألة الحرام. قال و إنما الكلام في أصل القياس و الاجتهاد فإذا ثبت ذلك خرج من أن يكون طعنا و قد ثبت أن أمير المؤمنين ع كان يولي من يرى خلاف رأيه كابن عباس و شريح و لا يمنع زيدا و ابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف بينه و بينهما. فأما ما روي من السبعين قضية فالمراد به في مسائل من الجد لأن مسألة واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة و ليس في ذلك عيب بل يدل على سعة علمه. و قال قد صح في زمان الرسول ص مثل ذلك لأنه لما شاور في أمر الأسرى أبا بكر أشار ألا يقتلهم و أشار عمر بقتلهم فمدحهما جميعا فما الذي يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين و من الواحد في حالين. و بعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن ع في طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين ع لأنه سلم الأمر و تمكنه أكثر من تمكن الحسين ع و لم يمنع ذلك من كونهما ع مصيبين. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 248اعترض المرتضى هذا الجواب فقال لا شك أن التلون في الأحكام و الرجوع من قضاء إلى قضاء إنما يكون عيبا و طعنا إذا أبطل الاجتهاد الذي يذهبون إليه فأما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا فأما الدعوى على أمير المؤمنين ع أنه تنقل في الأحكام و رجع من مذهب إلى آخر فإنها غير صحيحة و لا نسلمه و نحن ننازعه فيها و هو لا ينازعنا في تلون صاحبه و تنقله فلم يشتبه الأمران. و أظهر ما روي في ذلك خبر أمهات الأولاد و قد بينا فيما سلف من الكتاب ما فيه و قلنا إن مذهبه في بيعهن(13/202)
كان واحدا غير مختلف و إن كان قد وافق عمر في بعض الأحوال لضرب من الرأي فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذي يذهبون إليه بل لما بيناه من قبل أنه ع كان غير متمكن من اختياره و أنه يجري أكثر الأمور مجراها المتقدم للسياسة و التدبير و هذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه في الفتيا. فأما قوله إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة و إنما كانت في مسائل من الجد فكلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة و المسائل فأما أمر الأسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم و اليقين لأنه لا سبيل لأبي بكر و عمر إلى المشورة في أمر الأسارى إلا من طريق الظن و الحسبان و أحكام الدين معلومة و إلى العلم بها سبيل. و ما ادعاه من اجتهاد الحسن بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه لأن ذلك لم يكن عن اجتهاد و ظن بل كان عن علم و يقين فمن أين له أنهما عملا على الظن فما نراه اعتمد على حجة و من أين له أن تمكن الحسن كان أكثر من تمكن الحسين(13/203)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 249على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم و من ذاك القتال لأن المقاتل قد يكون مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة و المسالم مضيعا للأمر مفرطا و إذا كان عند صاحب الكتاب التسليم و القتال إنما كانا عن ظن و أمارات فليس يجوز أن يغلب على الظن بأن الرأي في القتال مع ارتفاع أمارات التمكن و لا أن يغلب في الظن المسالمة مع قوة أمارات التمكن. قلت أما القول في صحة الاجتهاد و بطلانه فله مواضع غير هذا الموضع و كذلك القول في تقية الإمام و استصلاحه و فعله ما لا يسوغ لضرب من السياسة و التدبير. و أما مسائل الجد فلم يعترض المرتضى قول قاضي القضاة فيها و أما قاضي القضاة فقد استبعد بل أحال أن تكون مسألة واحدة بعينها تحتمل سبعين حكما مختلفة فحمل الحديث على أن عمر أفتى في باب ميراث الأجداد و الجدات بسبعين فتيا في سبعين مسألة مختلفة الصور و ذلك دليل على علمه و فقهه و تمكنه من البحث في تفاريع المسائل الشرعية هذا هو جواب قاضي القضاة فكيف يعترض بقوله كلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله لا يختلف في المسألة الواحدة و المسائل المتعددة أ ليس هذا اعتراض من ظن أن قاضي القضاة قد اعترض بتناقض أحكامه و لكن لا في مسألة بعينها بل في مسائل من باب ميراث الجد و لم يقصد قاضي القضاة ما ظنه و الوجه أن يعترض قاضي القضاة فيقال إن الرواة كلهم اتفقوا على أن عمر تلون تلونا شديدا في الجد مع الإخوة كيف يقاسمهم و هي مسألة واحدة فقضى فيها بسبعين قضية فأخرجوا الرواية مخرج التعجب من تناقض فتاويه و لم يخرج أحد من المحدثين الرواية مخرج المدح له بسعة تفريعه في الفقه و المسائل فلا يجوز صرف الرواية عن الوضع الذي وردت عليه.(13/204)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 250و قول قاضي القضاة كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجها جوابه أنه لم يقع الأمر بموجب ما توهمه بل المراد أن قوما تحاكموا إليه في هذه المسألة مثلا اليوم فأفتى فيها بفتيا نحو أن يقول في جد و بنت و أخت للبنت النصف و الباقي بين الجد الأخت للذكر مثل حظ الأنثيين و هو قول زيد بن ثابت ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة بعينها قد وضعت لقوم آخرين فيقول للبنت النصف و للجد السدس و الباقي للأخت و هو المذهب المحكي عن علي ع و ذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه الفتيا على ما كان أفتى به من قبل ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهر آخر فيفتي فيها بفتيا أخرى فيقول للبنت النصف و الباقي بين الجد و الأخت نصفين و هو مذهب ابن مسعود ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر فيقضي فيها بالفتيا الأولى و هي مذهب زيد بأن يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر فيفتي فيها بقول علي ع و هكذا لا تزال المسألة بعينها تقع و أقواله فيها تختلف و هي ثلاثة لا مزيد عليها إلا أنه لا يزال يفتي فيها فتاوى مختلفة إلى أن توفي فأحصيت فكانت سبعين فتيا. فأما احتجاج قاضي القضاة بقصة أسرى بدر فجيد و أما ما اعترض به المرتضى فليس بجيد لأن المسألة من باب الشرع و هو قتل الأسرى أو تخليتهم بالفداء و القتل و إراقة الدم من أهم المسائل الشرعية و قد علم من الشارع شدة العناية بأمر الدنيا فإن كانت أحكام الشرع لا يجوز أن تتلقى و أن يفتي فيها إلا بطريق معلومة و أن الظن و الاجتهاد لا مدخل له في الشرع كما يذهب إليه المرتضى فكيف جاز من رسول الله ص أن يشاور في أحكام شرعية من لا طريق له إلى العلم و إنما قصارى أمره الظن و الاجتهاد و الحسبان و كيف مدحهما جميعا و قد اختلفا و لا بد أن يكون أحدهما مخطئا.(13/205)