شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 199القيامة مع كون الموت جائزا في العقل عليه و لا تناقض في ذلك فإن إبليس يبقى حيا إلى يوم القيامة مع كون موته جائزا في العقل و ما أورده أبو بكر عليه لازم على أن يكون نفيه للموت على هذا أوجه. و أما الوجه الثاني فهو أنه لما دفعه و بكر عن ذلك الاعتقاد وقف مع شبهة أخرى اقتضت عنده أن موته يتأخر و إن لم يكن إلى يوم القيامة و ذلك أنه تأول قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فجعل الضمير عائدا على الرسول لا على الدين و قال إن رسول الله ص لم يظهر بعد على سائر الأديان فوجب أن تستمر حياته إلى أن يظهر على الأديان بمقتضى الوعد الذي لا يجوز عليه الخلف و الكذب فحاجه أبو بكر من هذا المقام فقال له إنما أراد ليظهر دينه و سيظهره فيما بعد و لم يقل ليظهره الآن فمن ثم قال له و لو أراد ليظهر الرسول ص على الدين كله لكان الجواب واحدا لأنه إذا ظهر دينه فقد أظهره هو. فأما قول المرتضى رحمه الله و كيف دخلت هذه الشبهة على عمر من بين الخلق فهكذا تكون الخراطر و الشبه و الاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره و كيف دخلت الشبهة على جماعة منعوا الزكاة و احتجوا بقوله تعالى وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ دون غيرهم من قبائل العرب و كيف دخلت الشبهة على أصحاب الجمل و صفين دون غيرهم و كيف دخلت الشبهة على خوارج النهروان دون غيرهم و هذا باب واسع فأما قوله و من أين زعم أنه لا يموت حتى تقطع أيدي رجال و أرجلهم فإن الذي(13/156)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 200ذكره المؤرخون أنه قال ما مات رسول الله ص و إنما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه و سيعود فتقطع أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجف بموته و هذه الرواية تخالف ما ذكره المرتضى. فأما قوله و كيف حمل معنى قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ و قوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً على أن ذلك لا يكون في المستقبل فقد بينا الشبهة الداخلة عليه في ذلك و كونه ظن أن ذلك يكون معجلا على الفور و كذلك قوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً فإنه ظن أن هذا العموم يدخل فيه رسول الله ص لأنه سيد المؤمنين و سيد الصالحين أو أنه لفظ عام و المراد به رسول الله وحده كما ورد في كثير من آيات القرآن مثل ذلك فظن أن هذا الاستخلاف في جميع الأرض و تبديل الخوف بالأمن إنما هو على الفور لا على التراخي و ليست هذه الشبهة بضعيفة جدا كما ظن المرتضى بل هي موضع نظر. فأما قوله كيف لم يؤمن بموته لما رأى من كآبة الناس و حزنهم فلأن الناس يبنون الأمر على الظاهر و عمر نظر في أمر باطن دقيق فاعتقد أن الرسول لم يمت و إنما ألقي شبهه على غيره كما ألقي شبه عيسى على غيره فصلب و عيسى قد رفع و لم يصلب و اعلم أن أول من سن لأهل الغيبة من الشيعة القول بأن الإمام لم يمت و لم يقتل و إن كان في الظاهر و في مرأى العين قد قتل أو مات إنما هو عمر و لقد كان يجب على المرتضى و طائفته أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد.(13/157)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 201فأما قوله فهلا قال في مرض رسول الله ص لما رأى جزعهم لموته قد أمنكم الله من موته فغير لازم لأن الشبهة لا تجب أن تخطر بالبال في كل الأوقات فلعله قد كان في ذلك الوقت غافلا عنها مشغول الذهن بغيرها و لو صح للمرتضى هذا لوجب أن يدفع و يبطل كل ما يتجدد و يطرأ على الناس من الشبهة في المذاهب و الآراء فنقول كيف طرأت عليهم هذه الشبهات الآن و لم تطرأ عليهم من قبل و هذا من اعتراضات المرتضى الضعيفة على أنا قد ذكرنا نحن في الجزء الأول من هذا الكتاب ما قصده عمر بقوله إن رسول الله لم يمت و قلنا فيه قولا شافيا لم نسبق إليه فليعاود ثم قال المرتضى فأما ما روي عن أمير المؤمنين ع من خبر الاستحلاف في الأخبار فلا يدل على عدم علم أمير المؤمنين بالحكم لأنه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبر و يخوفه من الكذب على النبي ص لأن العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر و أيضا فلا تاريخ لهذا الحديث و يمكن أن يكون استحلافه ع للرواة إنما كان في حياة رسول الله ص و في تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الأحكام. فأما حديث الدفن و إدخاله في باب أحكام الدين التي يجب معرفتها فطريف و قد يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع سمع من النبي ص في باب الدفن مثل ما سمعه أبو بكر و كان عازما على العمل به حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل بما كان يعلمه لا من طريق أبي بكر و ظن الناس أن العمل لأجله و يجوز أن يكون رسول الله ص خير وصيه ع في موضع دفنه و لم يعين له موضعا بعينه فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته فليس في هذا دلالة على أنه ع استفاد حكما لم يكن عنده. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 202و أما موالي صفية فحكم الله فيهم ما أفتى به أمير المؤمنين ع و ليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به و لكنه كسكوته عن كثير من الحق تقية و مداراة للقوم. و أما قوله ع سلوني قبل أن تفقدوني و قوله إن هاهنا لعلما جما(13/158)
إلى غير ذلك فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط على ما ظنه صاحب الكتاب بل هو قول واثق بنفسه آمن من أن يسأل عما لا يعلمه و كيف يجوز أن يقول مثله على رءوس الأشهاد و ظهور المنابر سلوني قبل أن تفقدوني و هو يعلم أن كثيرا من أحكام الدين يعزب عنه و أين كان أعداؤه و المنتهزون لفرصته و زلته عن سؤاله عن مشكل المسائل و غوامض الأحكام و الأمر في هذا ظاهر. فأما استبعاد أبي علي لما روي عنه ع من قوله لو ثنيت لي الوسادة للوجه الذي ظنه فهو البعيد فإنه لم يفطن لغرضه ع و إنما أراد أني كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا ص و صحة شرعه فأكون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة و أحكام هذا القرآن و هذا من جليل الأغراض و عظيمها
الطعن الثاني(13/159)
أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ و قال إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه و قال لو لا معاذ لهلك عمر و من يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما لأنه يجري مجرى أصول الشرع بل العقل يدل عليه لأن الرجم عقوبة و لا يجوز أن يعاقب من لا يستحق. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 203اعتذر قاضي القضاة عن هذا فقال إنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر و هو أن الحامل لا ترجم حتى تضع و إنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر و إنما قال ما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل. ثم سأل نفسه فقال فإن قيل إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لو لا معاذ و أجاب بأنه لم يرد لهلك من جهة العذاب و إنما أراد أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل و يجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها لأن ذلك لا يمتنع أن يكون بخطيئة و إن صغرت. اعترض المرتضى على هذا الاعتذار فقال لو كان الأمر على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له هي حامل و لا يقول له إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها لأن هذا قول من عنده أنه أمر برجمها مع العلم بحملها و أقل ما يجب لو كان الأمر كما ظنه صاحب الكتاب أن يقول لمعاذ ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم و إنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة و في إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا و قد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فإذا علم انتفاءه و ارتفاعه أمر بالرجم و صاحب الكتاب قد اعترف بأن ترك المسألة عن ذلك تقصير و خطيئة و ادعى أنها صغيرة و من أين له ذلك و لا دليل يدل عنده في غير الأنبياء ع أن معصية بعينها صغيرة. فأما إقراره بالهلاك لو لا تنبيه معاذ فإنه يقتضي التعظيم و التفخيم لشأن الفعل و لا يليق ذلك إلا بالتقصير(13/160)