النوم و الراحة قد سارت القافلة فقال له أبو يزيد قل لأخي الرجل مننام الليل كله ثم يصبح في المنزل قبل القافلة فقال ذو النون هنيئا له هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا. و قد تكلم الحكماء في هذا المقام فقال أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة و هو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد. ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة و الرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الإيثار. و الثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل و الوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة من التوهمات المناسبة للأمر السفلي. و الثالث تلطيف السر لنفسه. فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي و الثاني يعين عليه عدة أشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي بعبارة بليغة و نغمة رخيمة و سمت رشيد و الثالث يعين عليه الفكر اللطيف و العشق العفيف الذي تتأمر فيه شمائل المعشوق دون سلطان الشهوة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص 213و منها الاستقامة و حقيقتها الدوام و الاستمرار على الحال قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا. و سئل بعضهم عن تارك الاستقامة فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه فقال وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً و
في الحديث المرفوع شيبتني هود فقيل له في ذلك فقال قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ(12/176)


و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً فلم يقل سقيناهم بل أسقيناهم أي جعلنا لهم سقيا دائمة و ذلك لأن من دام على الخدمة دامت عليه النعمة. و منها الإخلاص و هو إفراد الحق خاصة في الطاعة بالقصد و التقرب إليه بذلك خاصة من غير رياء و من غير أن يمازحه شي ء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح أو معنى من المعاني و لذلك قال أرباب هذا الفن الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين. و قال الخواص من هؤلاء القوم نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه فإذا أرد الله أن يخلص إخلاص عبد أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه فيكون مخلصا لا مخلصا. و
جاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 214و منها الصدق و يطلق على معنيين تجنب الكذب و تجنب الرياء و قد تقدم القول فيهما. و منها الحياء و في الحديث الصحيح إذا لم تستحي فاصنع ما شئت
و في الحديث أيضا الحياء من الإيمان
و قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى قالوا معناه أ لم يستحي. و
في الحديث أنه قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء قالوا إنا لنستحيي و نحمد الله قال ليس كذلك من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى و ليذكر الموت و طول البلى و ليترك زينة الحياة الدنيا فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء(12/177)


و قال ابن عطاء العلم الأكبر الهيبة و الحياء فإذا ذهبا لم يبق خير. و قال ذو النون الحب ينطق و الحياء يسكت و الخوف يقلق. و قال السري الحياء و الأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد و الورع حطا و إلا رحلا. و كان يقال تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين حتى رق الدين ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة و الرهبة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 215و قال الفضيل خمس من علامات الشقاءلقسوة في القلب و جمود العين و قلة الحياء و الرغبة في الدنيا و طول الأمل. و فسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أنها كان لها صنم في زاوية البيت فمضت فألقت على وجهه ثوبا فقال يوسف ما هذا قالت أستحيي منه قال فأنا أولى أن أستحيي من الله. و
في بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده و يعصيني و أنا أراه فلا يستحيي مني
و منها الحرية و هو ألا يكون الإنسان بقلبه رق شي ء من المخلوقات لا من أغراض الدنيا و لا من أغراض الآخرة فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا و لا آجل منى و لا حاصل هوى و لا سؤال و لا قصد و لا أرب. قال له ص بعض أصحاب الصفة قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها و حجرها قال صرت حرا
و كان بعضهم يقول لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت
أ تمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر(12/178)


و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا إلا مقدار مص نواه فقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. و منها الذكر قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 216و روى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند خالقكم و أرفعها في درجاتكم و خير من إعطائكم الذهب و الفضة في سبيل الله و من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم قالوا ما ذلك يا رسول الله قال ذكر الله
و في الحديث المرفوع لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله
و قال أبو علي الدقاق الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور و من سلب الذكر فقد عزل. و قيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين به يقاتلون أعداءهم و به يدفعون الآفات التي تقصدهم و أن البلاء إذا أظل العبد ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه كل ما يكرهه. و
في الخبر المرفوع إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها قيل و ما رياض الجنة قال مجالس الذكر
و في الخبر المرفوع أنا جليس من ذكرني
و سمع الشبلي و هو ينشد
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة و أيسر ما في الذكر ذكر لساني فكدت بلا وجد أموت من الهوى و هام على القلب بالخفقان فلما أراني الوجد أنك حاضري شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلم و لاحظت معلوما بغير عي شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 217و منها الفتوة قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. و قال تعالى في أصحاب الكهف إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً. و قد اختلفوا في التعبير عن اتوة ما هي فقال بعضهم الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك. و قال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان. و قالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله
لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي(12/179)


لأنه كسر الأصنام فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل حين كسرها و جعلها جذاذا. قالوا و صنم كل إنسان نفسه فمن خالف هواه فقد كسر صنمه فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة. و قال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف و لا تنتصف. و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبي عن الفتوة فقال ترك ما تهوى لما تخشى. و قيل الفتوة ألا تدخر و لا تعتذر.
سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوة فقال ما تقول أنت قال إن أعطينا شكرنا و إن منعنا صبرنا قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شأنها و لكن قل إن أعطينا آثرنا و إن منعنا شكرنا
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 218و منها الفراسة قيل في تفسير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي للمتفرسين و قال النبي ص اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطئ
قيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها الحق إياها و كل من كان أقوى إيمانا كان أشد فراسة. و كان يقال إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة. و منها حسن الخلق و هو من صفات العارفين فقد أثنى الله تعالى به على نبيه فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و
قيل له ص أي المؤمنين أفضل إيمانا فقال أحسنهم خلقا و بالخلق تظهر جواهر الرجال و الإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه
و قال بعضهم حسن الخلق استصغار ما منك و استعظام ما إليك. و
قال النبي ص إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم(12/180)

4 / 147
ع
En
A+
A-