شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 205و قال بعضهم من راقب الله في خواطره عصمه الله في جوارحه. و منها الرضا و هو أن يرضى العبد بالشدائد و المصائب التي يقضيها الله تعالى عليه و ليس المراد بالرضا رضا العبد بالاصي و الفواحش أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها فإنه سبحانه لا يرضاها كما قال جل جلاله وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ. و قال كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. قال رويم الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه. و قيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا قال إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة. قال الشبلي مرة و الجنيد حاضر لا حول و لا قوة إلا بالله فقال الجنيد أرى أن قولك هذا ضيق صدر و ضيق الصدر يجي ء من ترك الرضا بالقضاء. و قال أبو سليمان الدارني الرضا ألا تسأل الله الجنة و لا تستعيذ به من النار. و قال تالى فيمن سخط قسمته وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ و جواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 206و في حذفه فائدة لطيفة و هو أن تقديره لرضي الله عنهم و لما كان رضاه عن عباده مقاما جلا جدا حذف ذكره لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه و حقيقة فضله فكان الإضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه. و
من الأخبار المرفوعة أنه ص قال اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء(12/171)
قالوا إنما قال بعد القضاء لأن الرضا قبل القضاء لا يتصور و إنما يتصور توطين النفس عليه و إنما يتحقق الرضا بالشي ء بعد وقوع ذلك الشي ء. و في الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه اعمل لله باليقين و الرضا فإن لم يكن فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا
و في الحديث أنه ص رأى رجلا من أصحابه و قد أجهده المرض و الحاجة فقال ما الذي بلغ بك ما أرى قال المرض و الحاجة قال أ و لا أعلمك كلاما إن أنت قلته أذهب الله عنك ما بك قال و الذي نفسي بيده ما يسرني بحظي منهما أن شهدت معك بدرا و الحديبية فقال ص و هل لأهل بدر و الحديبية ما للراضي و القانع
و قال أبو الدرداء ذروة الإيمان الصبر و الرضا. قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم فقال له عبد الله بن السائب يا عم إنك تدعو للناس فيستجاب لك هلا دعوت أن يرد عليك بصرك فقال يا ابن أخي قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري. عمر بن عبد العزيز أصبحت و ما لي سرور إلا في مواقع القدر. و كان يقال الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح و كان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 207و كان يقال من رضي حظي و من اطرح الاقتراح أفلح و استراح. و كان يقال كن باضا عاملا قبل أن تكون له معمولا و سر إليه عادلا و إلا سرت نحوه معدولا. و قيل للحسن من أين أتى الخلق قال من قلة الرضا عن الله فقيل و من أين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله. و قال صاحب سلوان المطاع في الرضا
يا مفزعي فيما يجي ء و راحمي فيما مضى عندي لما تقضيه ما يرضيك من حسن الرضو من القطيعة أستعيذ مصرحا و معرضا و قال أيضا
كن من مدبرك الحكيم علا و جل على وجل و ارض القضاء فإنه حتم أجل و له أجلو قال أيضا(12/172)
يا من يرى حالي و أن ليس لي في غير قربي منه أوطارو ليس لي ملتحد دونه و لا عليه لي أنصارحاشا لذاك العز و الفضل أن يهلك من أنت له جارو إن تشأ هلكي فهب لي رضا بكل ما تقضي و تختار
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 208عندي لأحكامك يا مالكي قلب كما أنعمت صباركل عذاب منك مستعذب ما لم يكن سخطك و الناو منها العبودية و هي أمر وراء العبادة معناها التعبد و التذلل قالوا العبادة للعوام من المؤمنين و العبودية للخواص من السالكين. و قال أبو علي الدقاق العبادة لمن له علم اليقين و العبودية لمن له عين اليقين. و سئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية فقال إذا طرح كله على مولاه و صبر معه على بلواه. و قال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به و مفارقة ما زجرت عنه. و قيل العبودية أن تسلم إليه كلك و تحمل عليه كلك. و
في الحديث المرفوع تعس عبد الدينار و تعس عبد الخبيصة
رأى أبو يزيد البسطامي رجلا فقال له ما حرفتك قال خربنده قال أمات الله حمارك لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار. و كان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ صوفي كبير اللحية جدا و كان مغرى و معنى بها أكثر زمانه يدهنها و يسرحها و يجعلها ليلا عند نومه في كيس فقام بعض المريدين إليه في الليل و هو نائم فقصها من الإذن إلى الإذن فأصبحت كالصريم و أصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط فجمع الصوفية و سألهم فقال المريد أنا قصصتها قال و كيف فعلت ويلك ذلك قال أيها الشيخ إنها كانت صنمه و كان يعبدها من دون الله فأنكرت ذلك بقلبي و أردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحية. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 209قالوا و ليس شي ء أشرف من العبودية و لا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية و لذلك قال سبحانه في ذكر النبي ص ليلة المعراج و كان ذلك الوقت أشرف أوقاته في الدنيا سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ول تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. و أنشدوا(12/173)
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
و منها الإرادة قال تعالى وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين و هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله و إنما سميت هذه الصفة إرادة لأن الإرادة مقدمة كل أمر فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله فلما كان هذا الشأن أول الأمر لمن يسلك طريق الله سمي إرادة تشبيها له بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها. قالوا و المريد على موجب الاشتقاق من له إرادة و لكن المريد في هذا الاصطلاح من لا إرادة له فما لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا. و قد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الإرادة في اصطلاحهم فقال بعضهم الإرادة ترك ما عليه العادة و عادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 210و الركون إلى اتباع الشهوة و اللاد إلى ما دعت إليه المنية و المريد هو المنسلخ عن هذه الجملة. و قال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب و لهذا قيل إنها لوعة تهون كل روعة. و قال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد و لذعة في القلب و غرام في الضمير و انزعاج في الباطن و نيران تأجج في القلوب. و قال ممشاذ الدينوري مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها لم أمازح فقيرا و ذلك أن فقيرا قدم علي فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة فجرى على لساني إرادة و عصيدة فتأخر الفقير و لم أشعر فأمرت باتخاذ عصيدة و طلبته فلم أجده فتعرفت خبره فقيل إنه انصرف من فوره و هو يقول إرادة و عصيدة إرادة و عصيدة و هام على وجهه حتى خرج إلى البادية و هو يكرر هذه الكلمة فما زال يقول و يرددها حتى مات. و حكى بعضهم قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري فصحت يا أنس كلموني يا جن كلموني فهتف هاتف أي شي ء ناديت فقلت الله فقال الهاتف كذبت لوأردته لما ناديت الإنس و لا(12/174)
الجن. فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شي ء و لا يفتر آناء الليل و أطراف النهار فهو في الظاهر بنعت المجاهدات و في الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش و لازم الانكماش و تحمل المصاعب و ركب المتاعب و عالج الأخلاق و مارس المشاق و عانقالأهوال و فارق الأشكال فهو كما قيل
ثم قطعت الليل في مهمه لا أسدا أخشى و لا ذيبا
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 211يغلبني شوقي فأطوى السرى و لم يزل ذو الشوق مغلوبو قيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل و الإخلاص في نصيحة الأمة و الأنس بالخلوة و الصبر على مقاساة الأحكام و الإيثار لأمره و الحياء من نظره و بذل المجهود في محبته و التعرض لكل سبب يوصل إليه و القناعة بالخمول و عدم الفرار من القلب إلى أن يصل إلى الرب. و قال بعضهم آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج و كتبه الحديث و الأسفار. و قيل من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء نومه غلبة و أكله فاقة و كلامه ضرورة. و قال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله فيجده مع الإشارة فقيل له و أي شي ء يستوعب الإرادة فقال أن يجد اله بلا إشارة. و سئل الجنيد ما للمريدين و سماع القصص و الحكايات فقال الحكايات جند من جند الله تعالى يقوي بها قلوب المريدين فقيل له هل في ذلك شاهد فتلا قوله تعالى وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ. و قال أصحاب الطريقة بين المريد و المراد فرق فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول و المراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء فكان مخطوبا لا خاطبا و بين الخاطب و المخطوب فرق عظيم. قالوا كان موسى ع مريدا قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي و كان محمد ص مرادا قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ و سئل الجنيد عن شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 212المريد و المراد فقال المريد سائر و المراد طائر و متى يلحق السائر الطائر. أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبي يزيد و قال له إلى متى(12/175)