قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا أ ليس هذا نسخا للشي ء قبل تقضي وقت فعله فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا و أنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة فضلا عن حمقى العرب هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة و يستمالون بضعف سبب و تبنى الأمور معهم على ظواهر شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 89النصوص و أوائل الأدلة و هم أصحاب جهل و تقليد لا أصحاب تفضيل و نظر. قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها و سلكوا مسلك الرفض لزينتها و البة عنها و القناعة بالطفيف النزر منها و أكلوا الخشن و لبسوا الكرابيس و لما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها و فرقوا الأموال على الناس و قسموها بينهم و لم يتدنسوا منها بقليل و لا كثير فمالت إليهم القلوب و أحبتهم النفوس و حسنت فيهم الظنون و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا و لظهر عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستئثار بها و كيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص و ترك لذات الدنيا و مآربها فيخسروا الدنيا و الآخرة و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو الباب و آراء صحيحة فلم يبق عند أحد شك في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم و ثبتت العقائد على ولايتهم و تصويب أفعالهم و نسوا لذة الرئاسة و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون إلى المأكل و المشرب و المنكح و إنما يريدون الرئاسة و نفوذ الأمر كما قال الشاعر
و قد رغبت عن لذة المال أنفس و ما رغبت عن لذة النهي و الأمر(13/71)


قال رحمه الله و الفرق بين الرجلين و بين الثالث ما أصيب به الثالث و قتل تلك القتلة و خلعه الناس و حصروه و ضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله و جبهوه في وجهه و فسقوه و ذلك لأنه استأثر هو و أهله بالأموال و انغمسوا فيها و استبدوا بها فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأولين فلم تصبر العرب على ذلك و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد و جمع الناس و ردع الأمراء و الولاة عن الأموال و تجنب استعمال أهل بيته و وفر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها لما ضره شي ء قط و لا أنر عليه أحد قط و لو حول الصلاة من شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 90الكعبة إلى بيت المقدس بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس و اقتنع منهم بأربع و ذلك لأن همم الناس مصروفة إلى الدنيا و الأموال فإذا وجدوها سكتوا و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا أ لست ترى رسول ال ص كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين و على أعدائه الذين يتمنون قتله و موته و زوال دولته فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه و كف عن إظهار عداوته و الإجلاب عليه و لو أن عليا صانع أصحابه بالمال و أعطاه الوجوه و الرؤساء لكان أمره إلى الانتظام و الاطراد أقرب و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوي و آثر لزوم الدين و تمسك بأحكام الشريعة و الملك أمر آخر غير الدين فاضطرب عليه أصحابه و هرب كثير منهم إلى عدوه. و قد ذكرت في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر و لم يكن إمامي المذهب و لا كان يبرأ من السلف و لا يرتضي قول المسرفين من الشيعة و لكنه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه على أن العلوي لو كان كراميا لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب و ميل على الصحابة و إن قل. و لنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته و سيرته. كتب عمر إلى أبي موسى لما استعمله قاضيا و بعثه إلى العراق من عبد الله أمير(13/72)


المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له آس بين الناس في وجهك و عدلك و مجلسك حتى لا يطمع شريف في شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 91حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعةلحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأشباه و الأمثال و قس الأمور عند ذلك و اعمد إلى أقربها إلى الله عز و جل و أشبهها بالحق و اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر و درأ عنكم بالبينات و الأيمان الشبهات إياك و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم و التنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذخر فمن صحت نيته و أقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه إنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه و خزائن رحمته و السلام. ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل و أطراها فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام و اختصرها بأجود الكلام و جعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا و لا ظالم عن حدودها محيصا.(13/73)


شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 92و كتب عمر إلى عماله يوصيهم فقال في جملة الكتاب ارتدوا و ائتزروا و انتعلوا و ألقوا الخفاف و السراويلات و ألقوا الركب و انزوا نزوا على الخيل و اخشوشنوا و عليكم بالمعدية أو قال و تمعددوا و ارموا الأغراض و علموا فتيانكم العوم و رماية و ذروا التنعم و زي العجم و إياكم و الحرير فإن رسول الله ص نهى عنه و قال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا و أشار بإصبعه. و كتب إلى بعض عماله أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته و أن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن و حتفها في سمنها و كتب إلى أبي موسى و هو بالبصرة بلغني أنك تأذن للناس الجماء الغفير فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف و أهل القرآن و التقوى و الدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة و لا تؤخر عمل اليوم لغد فتتداك عليك الأعمال فتضيع و إياك و اتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة و دنيا مؤثرة و ضغائن محمولة و حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إلى الرضا و الغبطة و من ألهته حياته و شغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة و الحسرة إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة بعيد القرارة لا يحنق على جرة و لا يطلع الناس منه على عورة و لا يخاف في الحق لومة لائم الزم أربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بأفضل حظك إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة ثم ائذن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 93للضعيف حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه و تعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف إلى أهله و احرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء و السلام عليك. و كان رجل من الأنصار لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور إلى أن جاء ذات يوم مع خصمه فجعل في أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و(13/74)


بينه كما يفصل فخذ الجزور. قال عمر فما زال يرددها حتى خفت على نفسي فقضيت عليه و كتبت إلى عمالي أما بعد فإياكم و الهدايا فإنها من الرشا ثم لم أقبل له هدية فيما بعد و لا لغيره. و كان عمر يقول اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون فإن الله عز و جل وكل بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم. و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر يقول جردوا القرآن و لا تفسروه و أقلوا الرواية عن رسول الله ص و أنا شريككم. و قال أبو جعفر و كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شي ء جمع أهله فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا و أن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم و أقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل إلا أضعفت عليه العقوبة. قال أبو جعفر و كان عمر شديدا على أهل الريب و في حق الله صليباحتى يستخرجه و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه و بالضعيف رحيما.(13/75)

29 / 147
ع
En
A+
A-