بشر بن مروان و هو على العراق رجلا إلى عبد الملك فسأله عن بشر فقال يا أمير المؤمنين هو اللين في غير ضعف الشديد في غير عنف فقال عبد الملك ذاك الأحوذي ابن حنتمة الذي كان يأمن عنده البري ء و خافه السقيم و يعاقب على الذنب و يعرف موضع العقوبة لا بشر بن مروان. أذن عمر يوما للناس فدخل شيخ كبير يعرج و هو يقود ناقة رجيعا يجاذبها حتى وقف بين ظهراني الناس ثم قال
و إنك مسترعى و إنا رعية و إنك مدعو بسيماك يا عمرلدى يوم شر شره لشراره و خير لمن كانت مؤانسه الخير
فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله من أنت قال عمرو بن براقة قال ويحك فما منعك أن تقول وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ ثم قرأها إلى آخرها و أمر بناقته فقبضت و حمله على غيرها و كساه و زوده. شرح نهج البل ج : 12 ص : 41بينا عمر يسير في طريق مكة يوما إذا بالشيخ بين يديه يرتجز و يقول
ما إن رأيت كفتى الخطاب أبر بالدين و بالأحساب بعد النبي صاحب الكتابفطعنه عمر بالسوط في ظهره فقال ويلك و أين الصديق قال ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين قال أما إنك لو كنت عالما ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك. قال زيد بن أسلم كنت عند عمر و قد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة و كان محبوسا فأخرجه من السجن ثم أنشده
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء و لا شجرألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمرأنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقت إليه مقاليد النهى البشرما آثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر(13/31)
فبكى عمر لما قال له ما ذا تقول لأفراخ فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء أتقي من رجل يبكي خوفا من حبس الحطيئة ثم قال عمر لغلامه يرفأ علي بالكرسي فجلس عليه ثم قال علي بالطست فأتي بها ثم قال علي بالمخصف لا بل علي بالسكين فأتي بها فقال لا بل علي بالموسى فإنها أوجي فأتي بموسى ثم قال أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجر و ينسب بالحرم و يمدح الناس و يذمهم بغير ما فيهم و ما أراني إلا قاطعا لسانه فجعل الحطيئة يزيد خوفا فقال من حضر أنه لا يعود يا أمير المؤمنين و أشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين فقال النجاء النجاء فلما ولى ناداه يا حطيئة فرجع مرعوبا فقال كأني بك يا حطيئة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 42عند فتى من قريش قد بسط لك نمرقة و كسر لك أخرى ثم قال غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس قال يا أمير المؤمنين لا أعود و لا يكون ك. قال زيد بن أسلم ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد بسط له نمرقة و كسر له أخرى ثم قال تغنينا يا حطيئة و هو يغنيه فقلت يا حطيئة أ ما تذكر قول عمر لك ففزع و قال رحم الله ذلك المرء أما لو كان حيا ما فعلنا هذا قال فقلت لعبيد الله بن عمر سمعت أباك يذكر كذا فكنت أنت ذلك الفتى. كان عمر يصادر خونة العمال فصادر أبا موسى الأشعري و كان عامله على البصرة و قال له بلغني أن لك جاريتين و أنك تطعم الناس من جفنتين و أعاده بعد المصادرة إلى عمله. و صادر أبا هريرة و أغلظ عليه و كان عامله على البحرين فقال له أ لا تعلم أني استعملتك على البحرين و أنت حاف لا نعل في رجلك و قد بلغني أنك بعت أفراسا بألف و ستمائة دينار قال أبو هريرة كانت لنا أفراس فتناتجت فقال قد حبست لك رزقك و مئونتك و هذا فضل قال أبو هريرة ليس ذلك لك قال بلى و الله و أوجع ظهرك ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه ثم قال ائت بها فلما أحضرها قال أبو هريرة سوف(13/32)
أحتسبها عند الله قال عمر ذاك لو أخذتها من حل و أديتها طائعا أما و الله ما رجت فيك أميمة أن تجبي أموال هجر و اليمامة و أقصى البحرين لنفسك لا لله و لا للمسلمين و لم ترج فيك أكثر من رعية الحمر و عزله. و صادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة و قال له ما قلاص و أعبد بعتها بمائه دينار قال خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها قال و إنا و الله ما بعثناك للتجارة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 43أدها قال أما و الله لا أعمل لك بعدها قال إنا و الله لا أستعملك بعدهثم صعد المنبر فقال يا معشر الأمراء إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم فأما إذ لم نره يحل لنا و ظلفنا أنفسنا عنه فاظلفوا عنه أنفسكم فإني و الله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة و لم ينظر الماتح فلما روي غرق. و كتب عمر إلى عمرو بن العاص و هو عامله في مصر أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال من إبل و غنم و خدم و غلمان و لم يكن لك قبله مال و لا ذلك من رزقك فإني لك هذا و لقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك و لكني استعملتك لغنائك فإذا كان عملك لك و علينا بم نؤثرك على أنفسنا فاكتب إلي من أين مالك و عجل و السلام. فكتب إليه عمرو بن العاص قرأت كتاب أمير المؤمنين و لقد صدق فأما ما ذكره من مالي فإني قدمت بلدة الأسعار فيها رخيصه و الغزو فيها كثير فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين و الله يا أمير المؤمنين لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا فأقصر عنا عناك فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك و أما من كان لك من السابقين الأولين فهلا استعملتهم فو الله ما دققت لك بابا. فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام في شي ء إنكم معشر الأمراء أكلتم الأمول و أخلدتم إلى الأعذار فإنما تأكلون النار و تورثون العار و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليشاطرك على ما في يديك و السلام.(13/33)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 44فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما و قدمه إليه فأبى أن يأكل فقال ما لك لا تأكل طعامنا قال إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر و لو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته فأبعد عني طعامك و أحضر لي مالك فلما كان الغد و أحضر ماله جعل محمد يأخشطرا و يعطي عمرا شطرا فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال قال يا محمد أقول قال قل ما تشاء قال لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب و الله لقد رأيته و رأيت أباه و إن على كل واحد منهما عباءة قطوانية مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه و على عنق كل واحد منهما حزمة من حطب و إن العاص بن وائل لفي مزررات الديباج فقال محمد إيها يا عمرو فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه ففي النار و و الله لو لا ما دخلت فيه من الإسلام لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها و يسوءك بكؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل. جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى قال و من أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله قال ويحك و قد تكني بأبي عيسى و دعاه و قال إيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر و فزع فأخذ يده فعضها حتى صاح ثم ضربه و قال ويلك هل لعيسى أب أ ما تدري ما كنى العرب أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة. كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يشتف حتى يعض يده و كان عبد الله بن الزبير كذلك يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 45و قال مالك بن أنس إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده فلم يعدل بعده أ منهم في ولاية وليها. كان عمر و من بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم و أقاموهم للناس حتى جاء زياد فضربهم بالسياط فجاء مصعب فحلق مع الضرب فجاء بشر بن مروان فكان يصلب تحت الإبطين و يضرب الأكف بالمسامير فكتب إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه و يتشوقونه و قد أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم(13/34)
لو لا مخافة بشر أو عقوبته أو أن يرى شأني كفي بمسمارإذا لعطلت ثغري ثم زرتكم إن المحب المعنى جد زوار
فلما جاء الحجاج قال كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف. زيد بن أسلم عن أبيه قال خلا عمر لبعض شأنه و قال أمسك علي الباب فطلع الزبير فكرهته حين رأيته فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة فلم يلتفت إلي و أهوى ليدخل فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه ثم رجع فدخلت على عمر فقال ما بك قلت الزبير. فأرسل إلى الزبير فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له فقال ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس فقال الزبير يحكيه و يمطط في كلامه أدميتني أ تحتجب عنا يا ابن الخطاب فو الله ما احتجب مني رسول الله و لا أبو بكر فقال عمر كالمعتذر إني كنت في بعض شأني. قال أسلم فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقي منه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 46فخرج الزبير فقال عمر إنه الزبير و آثاره ما تعلم فقلت حقي حقك. و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكمن سكك المدينة إذ قال لي يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي و مضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته فقال يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه فقلت في نفسي هذه شر من الأولى فقلت و الله ما استصغره الله و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك. فأعرض عني و أسرع فرجعت عنه. و قال ابن عباس قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه فما ذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا. قال يا ابن عباس إني قائل قولا فخذه إليك كيف لا أحب فراقهم و فيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا إما لحق لا ينوء به و إما لباطل لا يناله و الله لو لا أن أسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الأرض مني بلاقع و لم أقل ما فعل فلان و فلان.(13/35)