شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 199و في الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس و كن قنوعا تكن أشكر الناس و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلبو كان يقال الفقراء أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة. و قال أبو سليمان الداراني القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا أول الرضا و هذا أول الزهد. و قيل القناعة سكون النفس و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات. و قيل في تفسير قوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعة. و قال أبو بكر المراغي العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف و أنكر أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود و الاستغناء بالموجود. و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا. و كان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة. مر أبو حازم الأعرج بقصاب فقال له خذ يا أبا حازم فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك قال نفسي أحسن نظرة لي منك. و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة و الذل في المعصية و الهيبة في قيام الليل و الحكمة في البطن الخالي و الغنى في القناعة. و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص. ذو النون المصري من قنع استراح من أهل زمانه و استطال على أقرانه. و أنشدوا
و أحسن بالفتى من يوم عار ينال به الغنى كرم و جوع(12/166)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 200و رأى رجل حكيما يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان. و قيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة علقت ى حباله نزل من مطاره فنشب في الأحبولة. و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد. و منها التوكل قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ و قال سهل بن عبد الله أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة و لا تدبير. و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب و ليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله فإن تعسر شي ء فبتقديره و أن تسهل فبتيسيره. شرح نهج البلاج : 11 ص : 201و
في الخبر النبوي أنه ع قال للأعرابي الذي ترك ناقته مهملة فندت فلما قيل له قال توكلت فتركتها فقال ع اعقل و توكل(12/167)
و قال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول و القوة و ترك تدبير الأسباب و قال بعضهم التوكل رد العيش إلى يوم واحد بإسقاط هم غد. و قال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل و هو أدناها ثم التسليم ثم التفويض فالأولى للعوام و الثانية للخواص و الثالثة لخواص الخواص. جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال فقال ارجع إلى بيتك فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله فأخرجه من البيت. و قال سهل بن عبد الله من طعن في التوكل فقط طعن في الإيمان و من طعن في الحركة فقد طعن في السنة. و كان يقال المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه. و رأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم فمضت عليه أيام فقال له يوما أ رأيت لو غارت أي زمزم أي شي ء كنت تشرب فقام و قبل رأسه و قال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم نذ أيام ثم تركه و مضى. و قيل التوكل نفي الشكوك و التفويض إلى مالك الملوك. و دخل جماعة على الجنيد فقالوا نطلب الرزق قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسأل الله ذلك قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا لندخل البيت فنتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 202و قيل التوكل الثقة بالله و اليأس عما في أيدي الناس. و منها الشكر و قد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه. و منها اليقين و هو مقام جليل قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و قال علي بن أبي طالب ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا
و قال سهل بن عبد الله حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين و فيه شكوى إلى غير الله. و
ذكر للنبي ص ما يقال عن عيسى ابن مريم ع أنه مشى على الماء فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواء(12/168)
و في الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود لا ترضين أحدا بسخط الله و لا تحمدن أحدا على فضل الله و لا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله و اعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص و لا يرده كراهة كاره و أن الله جعل الروح و الفرج في الرضا و اليقين و جعل الهم و الحزن في الشك و السخط
و منها الصبر قال الله تعالى وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ و
قال علي ع الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
و سئل الفضيل عن الصبر قال تجرع المرارة من غير تعبيس. و قال رويم الصبر ترك الشكوى. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 203و قال علي ع الصبر مطية لا تكبو
وقف رجل على الشبلي فقال أي صبر أشد على الصابرين قال الشبلي الصبر في الله تعالى فقال لا قال فالصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا قال فأي شي ء قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة عظيمة و وقع. و يقال إن الشبلي حبس في المارستان فدخل عليه قوم فقا من أنتم قالوا محبوك جئناك زائرين فرماهم بالحجارة فهربوا فقال لو كنتم أحباي لصبرتم على بلائي و
جاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي
و قال عمر بن الخطاب لو كان الصبر و الشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت
و في الحديث المرفوع الإيمان الصبر و السخاء
و في الخبر العلم خليل المؤمن و الحلم وزيره و العقل دليله و العمل قائده و الرفق والده و البر أخوه و الصبر أمير جنوده قالوا فناهيك بشرف خصلة تتأمر على هذه الخصال و المعنى أن الثبات على هذه الخصال و استدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر فلذلك كان أمير الجنود
و منها المراقبة جاء في الخبر عن النبي ص أن سائلا سأله عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك(12/169)
و هذه إشارة إلى حال المراقبة لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق و هو أصل كل خير و لا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه عن المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف و أصلح حاله في الوقت شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20 لازم طريق الحق و أحسن بينه و بين الله تعالى بمراعاة القلب و حفظ مع الله سبحانه الأنفاس راقبه تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه تعالى رقيب عليه يعلم أحواله و يرى أفعاله و يسمع أقواله و من تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة. و يحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له و كان لوزيره ميل باطن إليها فكان يسعى في مصالحها و يرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك و نسائه فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزيره فتحيرت أيهما تأخذ فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس و حانت من الملك التفاته فشاهد عين الوزير و هي مائلة إلى ذلك الجانب فبقي الوزير بعدها أربعين سنة لا يراه الملك قط إلا كاسرا عينه نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم أي كأن ذلك خلقة و هذا عزم قوي في المراقبة و مثله فليكن حال من يريد الوصول. و يحكى أيضا أن أميرا كان له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من مماليكه و لم يكن أكثرهم قيمة و لا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك فأحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فكان يوما راكبا و معه حشمه و بالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الأمير إلى الثلج و أطرق فركض الغلام فرسه و لم يعلم الغلمان لما ذا ركض فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء و معه شي ء من الثلج فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج فقال إنك نظرت إليه و نظر السلطان إلى شي ء لا يكون إلا عن قصد فقال الأمير لغلمانه إنما أختصه بإكرامي و إقبالي لأنكل واحد منكم شغلا و شغله مراعاة لحظاتي و مراقبة أحوالي.(12/170)