إنفاق المال و كثرة المستجيبين مع فرق ما بين الطاعتين لأن طاعة الشاب الغرير و الحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه و عشيرته. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما كثرة المستجيبين فالفضل فيها راجع إلى المجيب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 266لا إلى المجاب على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع أكثر ممن استجاب لنوح ع و ثواب نوح أكثر لصبره على الأعداء و مقاساة خلافهم و عنت و أما إنفاق المال فأين محنة الغني من محنة الفقير و أين يعتدل إسلام من أسلم و هو غني إن جاع أكل و إن أعيا ركب و إن عري لبس قد وثق بيساره و استغنى بماله و استعان على نوائب الدنيا بثروته ممن لا يجد قوت يومه و إن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره و في ذلك قيل الفقر شعار المؤمن و
قال الله تعالى لموسى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين
و في الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام
و كان النبي ص يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء(14/296)
و لذلك أرسل الله محمدا ص فقيرا و كان بالفقر سعيدا فقاسى محنة الفقر و مكابدة الجوع حتى شد الحجر على بطنه و حسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مناف لحال الدنيا و أهلها و إنما هو شعار أهل الآخرة. و أما طاعة علي ع و كون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه و عز رهطه بخلاف طاعة أبي بكر فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك و جهاد عبيدة بن الحارث و هجرة جعفر إلى الحبشة بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله ص كانت لأن في دولته دولتهم و في نصرته استجداد ملك لهم و هذا يجر إلى الإلحاد و يفتح باب الزندقة و يفضي إلى الطعن في الإسلام و النبوة. قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار و خلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 267في الغار بما هو واضح لمن أنصف و نزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين أحدهما أن عليا ع قد كان أنس بالنبي ص و حصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم و إلف شديد فا فارقه عدم ذلك الأنس و حصل به أبو بكر فكان ما يجده علي ع من الوحشة و ألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه لأن الثواب على قدر المشقة. و ثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة و قد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلك هوى قلبه و محبوب نفسه فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة و عرض نفسه لوقع السيوف و رأسه لرضخ الحجارة لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه و يدعو الناس إلى الإسلام و كان له صوت رقيق و وجه عتيق و كان(14/297)
إذا قرأ بكى فيقف عليه المارة من الرجال و النساء و الصبيان و العبيد فلما أوذي في الله و منع من ذلك المسجد استأذن رسول الله ص في الهجرة فأذن له فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلك يخرج من مكة فرجع إليها و عاد لصنيعه في المسجد فمشت قريش إلى جاره الكناني و أجلبوا عليه فقال له دع المسجد و ادخل بيتك و اصنع فيه ما بدا لك.
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 268قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون و تضربه و هو فيهم ذو سطوة و قدر و تترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم و أنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب و ذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل إسلام عمر فكيف هذا. و أما ما ذكرتم من رقة صوته و عتاق وجهه فكيف يكون ذلك و قد روى الواقدي و غيره أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين معروق الخدين غائر العينين أجنأ لا يمسك إزاره فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا فلا نراها دلت على شي ء من الجمال في صفته. قال الجاحظ و حيث رد أبو بكر جوار الكناني و قال لا أريد جارا سوى الله لقي من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغكم و هذا موجود في جميع السير و كان آخر ما لقي هو و أهله في أمر الغار و قد طلبته قريش و جعلت فيه مائة بير كما جعلت في النبي ص فلقي أبو جهل أسماء بنت بكر فسألها فكتمته فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا الكلام و هجر السكران سواء في تقارب المخرج و اضطراب المعنى و ذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي ص و أبو طالب حي يمنعه فلما مات طلبته لتقتله فخرج تارة إلى بني عامر و تارة إلى ثقيف و تارة إلى بني شيبان و لم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا حتى أجاره مطعم بن عدي ثم خرج إلى المدينة فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها فلم تقدر عليه فما(14/298)
بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى و قد كان رد الجوار و بقي بينهم فردا لا ناصر له شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 269و لا دافع عنده يصنعون به ما يريدون إما أن يكونوا أجهل البرية كلها أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض و أوقحه وجها فهذا مما لم يذكر في سيرة و لا روي في أثر و لا سمع به بشر و سبق الجاحظ به أحد. قال الجاحظ ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة و الزبير و سعد و عثمان و عبد الرحمن لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء و حسن الاحتجاج و قد أسلم و معه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه و لطف احتجاجه و لا كرها بقطع النفقة عنه و إدخال المكروه عليه و لا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به و يدعوه إليه كما روي أن أبا طالب فقد النبي ص يوما و كان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه فخرج و معه ابنه جعفر يطلبان النبي ص فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي و علي ع معه عن يمينه فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر تقدم و صل جناح ابن عمك فقام جعفر عن يسار محمد ص فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان فبكى أبو طالب و قال(14/299)
إن عليا و جعفرا ثقتي عند ملم الخطوب و النوب لا تخذلا و انصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم و أبي و الله لا أخذل النبي و لا يخذله من بني ذو حس شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 270فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم لأن أباه أمره بذلك و أطاع أمره و أبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة و خرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي أنا عبد الرحمن بن عتيقل من مبارز ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح و هو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا و كرها و لم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا و أين كان رفق أبي بكر و حسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة و هما في دار واحدة هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم و قد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح فأحضره ابنه عند النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة فنفر رسول الله ص منه و قال غيروا هذا فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم و كان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال و أبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة و الإحسان و قد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه و اسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية لم تسلم و أقامت على شركها بمكة و هاجر أبو بكر و هي كافرة فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلقها أبو بكر فمن عجز عن ابنه و أبيه و امرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز و من لم يقبل منه أبوه و ابنه و امرأته لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقة عنهم و إدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه و أكثر خلافا عليه. قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبي بكر ما عرفت أبي إلا و هو يدين بالدين و لقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أكثر جلسائه و لذلك قالوا من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف و لم يذهبوا في ذلك(14/300)