الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحاق و إبراهيم عند استسلامه للذبح و لو لا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع و بكى على نفسه و قد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة و لذلك قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى و حال علي ع بخلاف ذلك لأنه ما تلكأ و لا تتعتع و لا تغير لونه و لا اضطربت أعضاؤه و لقد كان أصحاب النبي ص يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به و تقدم فيه فيتركه و يعمل بما أشاروا به كما جرى يوم الخندق في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه و هذه كانت قاعدته معهم و عادته بينهم و قد كان لعلي ع أن يعتل بعلة و أن يقف و يقول يا رسول الله أكون معك أحميك من العدو و أذب بسيفي عنك فلست شرح نهج البغة ج : 13 ص : 261مستغنيا في خروجك عن مثلي و نجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج و لم تفارق مركزك فلم يقل ذلك و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم و ذلك لعلم كل واحد منهما ص أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة و لا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها و الفوز بفضيلتها و له من جنس ذلك أفعال كثيرة كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم عنه لما علموا من بأسه و شدته ثم كرر النداء فقام علي ع
فقال أنا أبرز إليه فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علي
فأمره بالخروج إليه فلما خرج
قال ص برز الإيمان كله إلى الشرك كله
و كيوم أحد حيث حمى رسول الله ص من أبطال قريش و هم يقصدون قتله فقتلهم دونه حتى قال جبرئيل ع يا محمد إن هذه هي المواساة
فقال إنه مني و أنا منه(14/291)


فقال جبريل و أنا منكما و لو عددنا أيامه و مقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ فإن احتج محتج لعلي ع بالمبيت على الفراش فبين الغار و الفراش فرق واضح لأن الغار و صحبة أبي بكر للنبي ص قد نطق به القرآن فصار كالصلاة و الزكاة و غيرهما مما نطق به الكتاب و أمر علي ع و نومه على الفراش و إن كان ثابتا صحيحا إلا أنه لم يذكر في القرآن و إنما جاء مجي ء الروايات و السير و هذا لا يوازن هذا و لا يكايله. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر لأنه قد ثبت بالتواتر حديث شرح نهج البلاغة ج : ص : 262الفراش فلا فرق بينه و بين ما ذكر في نص الكتاب و لا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة أ رأيت كون الصلوات خمسا و كون زكاة الذهب ربع العشر و كون خروج الريح ناقضا للطهارة و أمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام هذا مما لا يقوله رشيد و لا عاقل على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب و إنما قال إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ و إنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر و ما ورد في السيرة و قد قال أهل التفسير إن قوله تعالى وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ كناية عن علي ع لأنه مكر بهم و أول الآية وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أنزلت في ليلة الهجرة و مكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش و مكر الله تعالى هو منام علي ع على الفراش فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا و قد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أنزلت في علي ع ليلة المبيت على الفراش فهذه مثل قوله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بينهما. قال الجاحظ و فرق(14/292)


آخر و هو أنه لو كان مبيت علي ع على الفراش جاء مجي ء كون أبي بكر في الغار لم يكن له في ذلك كبير طاعة لأن الناقلين نقلوا أنه ص قال له نم فلن يخلص إليك شي ء تكرهه و لم ينقل ناقل أنه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 263قال لأبي بكر في صحبته إياه و كونه معه في الغار مثل ذلك و لا قال له أنفق و أعتق فإنك لن تفتقر و لن يصل إليك مكروه. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا هو الكذب الصراح و التحريف و الإدخال في الرواية ما ليس منها المعروف المنقول
أنه ص قال له اذهب فاضطجع في مضجعي و تغش ببردي الحضرمي فإن القوم سيفقدونني و لا يشهدون مضجعي فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي(14/293)


و لم ينقل ما ذكره الجاحظ و إنما ولده أبو بكر الأصم و أخذه الجاحظ و لا أصل له و لو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور و أنهم قالوا له رأينا تضورك فإنا كنا نرمي محمدا و لا يتضور و لأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل فهب أنه أمن القتل كيف يأمن من الضرب و الهوان و من أن ينقطع بعض أعضائه و بأن سلمت نفسه أ ليس الله تعالى قال لنبيه بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و مع ذلك فقد كسرت رباعيته و شج وجهه و أدميت ساقه و ذلك لأنها عصمة من القتل خاصة و كذلك المكروه الذي أومن علي ع منه و إن كان صح ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل. ثم يقال له و أبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار لأن النبي ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا و من يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء فكيف قلت و لم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي ص شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 264ن الله تعالى وعده بظهور دينه و عاقبة أمره فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه و لا ما يصيبه من الأذى إذ كان قد أيقن بالسلامة و الفتح في عدته. قال الجاحظ و من جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله ص فقد كفر لأنه جحد نص الكتاب ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا من الفضيلة لأبي بكر لأنه شريك رسول الله ص في كون الله تعالى معه و إنزال السكينة قال كثير من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري و النبي ص كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه و هذه(14/294)


فضيلة ثالثة لأبي بكر. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة و لقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعنا و عيبا على أبي بكر أولى من أن تكون فضيلة و منقبة له لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ دل على أنه قد كان حزن و قنط و أشفق على نفسه و ليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين و لا يجوز أن يكون حزنه طاعة لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه و قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي إن الله عالم بحالنا و ما نضمره من اليقين أو الشك كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا و لا تنوين قبيحا فإن الله تعالى يعلم ما نسره و ما نعلنه و هذا مثل قوله تعالى وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي هو عالم بهم و أما السكينة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 265فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي ص و بعدها قوله وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أ ترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ص. و قوله إنه مستغن عنها ليس بصحيح و لا يستغني أحد عن ألطاف الله و توفيقه و تأييده و تثبيقلبه و قد قال الله تعالى في قصة حنين وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ ص. و أما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة و الاصطحاب لا غير و قد يكون حيث لا إيمان كما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ و نحن و إن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر و إيمانه الصحيح السليم و فضيلته التامة إلا أنا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية و لا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة و مطاعنها. قال الجاحظ و إن كان المبيت على الفراش فضيلة فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المعذبين و(14/295)

122 / 147
ع
En
A+
A-