و كان بلال يقلب على الرمضاء و هو يقول أحد أحد و ما سمعنا لأبي بكر في شي ء من ذلك ذكرا و لقد كان لعلي ع عنده يد غراء إن صح ما رويتموه في تعذيبه لأنه قتل نوفل بن خويلد و عمير بن عثمان يوم بدر ضرب نوفلا فقطع ساقه فقال أذكرك الله و الرحم فقال قد قطع الله كل رم و صهر إلا من كان تابعا لمحمد ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه و صمد لعمير بن عثمان التميمي فوجده يروم الهرب و قد ارتج عليه المسلك فضربه على شراسيف صدره فصار نصفه الأعلى بين رجليه و ليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما و يجتهد لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ع فبان علي ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي و لا غيره و ذلك قبل الهجرة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 256فقد علم الناس أن عليا ع إنما ظهر فضله و انتشر صيته و امتحن و لقي المشاق منذ يوم بدر و أنه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الإام و أهل الشرك و طمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا و أعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين و أبو بكر كان قبل الهجرة معذبا و مطرودا مشردا في الزمان الذي ليس بالإسلام و أهله نهوض و لا حركة و لذلك قال أبو بكر في خلافته طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام يقول في ضعفه. قال أبو جعفر رحمه الله لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده و الخذلان أصاره إلى الحيرة فما علم و عرف حتى قال ما قال فزعم أن عليا ع قبل الهجرة لم يمتحن و لم يكابد المشاق و أنه إنما قاسى مشاق التكليف و محن الابتلاء منذ يوم بدر و نسي الحصار في الشعب و ما مني به منه و أبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد و يجلس مع من يحب مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه و علي يقاسي الغمرات و يكابد الأهوال و يجوع و يظمأ و يتوقع القتل صباحا و مساء لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا ليقيم به رمق رسول الله ص و بني هاشم و هم في الحصار و لا يأمن في كل وقت(14/286)


مفاجأة أعداء رسول الله ص له بالقتل كأبي جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و غيرهم من فراعنة قريش و جبابرتها و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول الله ص زاده و يظمئ نفسه و يسقيه ماءه و هو كان المعلل له إذا مرض و المؤنس له إذا استوحش و أبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم و لم يلحقه مما يلحقهم مشقة و لا يعلم بشي ء من أخبارهم و أحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم و مناكحتهم و مجالستم محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج(14/287)


شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 257و التصرف في أنفسهم فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة و نسي هذه الخصيصة و لا نظير لها و لكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه و تنسق له خطابته ما ضيع من المعنى و رجع عليه من الخطأ. فأما قوله و اعلموا أن العاقبة للمتقين ففيه إشا إلى معنى غامض قصده الجاحظ يعني أن لا فضيلة لعلي ع في الجهاد لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور و أن العاقبة له و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته و ليس بحق ما قاله لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم و لم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا و لا غيره و إن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه و لم يعلمه أنه لا يمسه ألم جراح في جسده و لم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد. و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر و هو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك فإن لم يكن لعلي و المجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك فلا فضيلة لأبي بكر و غيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياهم بذلك فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح و إن الله تعالى سيغنمنا أموالهم و يملكنا ديارهم فالقول في الموضعين متساو و متفق. قال الجاحظ و إن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ص مقرنين لأهل مكة و مشركي قريش و معهم أهل يثرب أصحاب النخيل و الآطام و الشجاعة و الصبر و المواساة و الإيثار و المحاماة و العدد الدثر و الفعل الجزل و بين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون و يشتمون و يضربون و يشردون و يجوعون و يعطشون شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 258مقهورين لا حراك بهم و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم و مستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا و لقد كان في حال أحوجت لوطا و هو نبي إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ(14/288)


قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و
قال النبي ص عجبت من أخي لوط كيف قال أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و هو يأوي إلى الله تعالى
ثم لم يكن ذلك يوما و لا يومين و لا شهرا و لا شهرين و لا عاما و لا عامين و لكن السنين بعد السنين و كان أغلظ القوم و أشدهم محنة بعد رسول الله ص أبو بكر لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ص ثلاث عشرة سنة و هو أوسط ما قالوا في مقام النبي ص. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم و أشدهم محنة إلا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ص بها و هذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده لأن عليا ع أقام معه هذه المدة و كذلك طلحة و زيد و عبد الرحمن و بلال و خباب و غيرهم و قد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة و أشدهم محنة بعد رسول الله ص فالاحتجاج في نفسه فاسد. ثم يقال له ما بالك أهملت أمر مبيت علي ع على الفراش بمكة ليلة الهجرة هل نسيته أم تناسيته فإنها المحنة العظيمة و الفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر و أجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة و مناقب متغايرة و ذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بينهم للهجرة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 259إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته و تعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه و أن يضربوه بأسياف كثيرة بيد كل حب قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب و يتفرق بين القبائل و لا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش و تحالفوا على تلك الليلة و اجتمعوا عليها فلما علم رسول ص ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم في نفسه و أبذلهم في ذات الإله لمهجته و أسرعهم إجابة إلى طاعته
فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض إلى فراشي و نم في مضجعي و التف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج و إني خارج إن شاء الله(14/289)


فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحيلة و صده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد و الجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم و ألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق و الغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه و نام على فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته ينتظر القتل و لا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر و لا يبلغها طالب و الجود بالنفس أقصى غاية الجود و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلك لما أهله و لو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه و اختير لذلك لكان من اختاره ص منقوضا في رأيه مضرا في اختياره و لا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام و كلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب و أحسن في الاختيار. ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل منها أنه و إن كان عنده في موضع الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء. و منها أنه و إن كان ضابطا للسر و ثقة عند من اختاره فغير مأمون عليه الجبن عند شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 260مفاجأة المكروه و مباشرة الأهوال فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة و يطلب رسول الله ص ففر به. و منها أنه و إن كان ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش لأن هذا أمر خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل له إلى الهرب و هذا يجد السبيل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه و لا يهرب و لا يدافع. و منها أنه و إن كان ثقة عنده ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة و العذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده و يصير إلى الإقرار بما يعلمه و هو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين إن فضيلة علي ع تلك(14/290)

121 / 147
ع
En
A+
A-