و أين كان ظهر أبي طالب عن جعفر و قد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة و ركب البحر أ يتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا و خذل جعفرا. قال الجاحظ و لأبي بكر فضيلة في إسلامه أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسار و غنى يعظم لماله و يستفاد من رأيه فخرج من عز الغنى و كثرة الصديق إلى ذل الفاقة و عجز الوحدة و هذا غير إسلام من لا حراك به و لا عز له تابع غير متبوع لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية و الضرب بعد الهيبة و العسر بعد اليسر ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول و كان يتلوه في جميع أحواله فكان الخوف إليه أشد و المكروه نحوه أسرع و كان ممن تحسن مطالبته و لا يستحيا من إدراك الثأر عنده لنباهته و بعد ذكره و الحدث الصغير يزدرى و يحتقر لصغر سنه و خمول ذكره. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 252قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ما ذكر من كثرة مال و الصديق و استفاضة الذكر و بعد الصيت و كبر السن فكله عليه لا له و ذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب و أخلاقها حفظ الصديق و الوفاء بالذمام و التهيب لذي الثروة و احترام ذي السن العالية و في كل هذا ظهر شديد و سند و ثقة يعتمد عليها عند المحن و لذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه و استحيا منه و كان ذلك سببا لنجاته و العفو عنه على أن علي بن أبي طالب ع إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه و موضعه من بني هاشم و إن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال و كثرة الأسفار استفاض بأبي طالب فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم و لا أبو قحافة كأبي طالب و على حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن و يبعد صيت الحدث على الشيخ و معلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل إذ كان هاشميا و إن كان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته و علي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم بما أظهر من الإسلام و الصلاة و خالف رهطه و عشيرته و أطاع(14/281)
ابن عمه فيما لم يعرف من قبل و لا عهد له نظير كما قال تعالى لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ثم كان بعد صاحب رسول الله ص و مشتكى حزنه و أنيسه في خلوته و جليسه و أليفه في أيامه كلها و كل هذا يوجب التحريض عليه و معاداة العرب له ثم أنتم معاشر العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ص من مكة إلى يثرب و دخوله معه في الغار فقلتم مرتبة شريفة و حالة جليلة إذ كان شريكه في الهجرة و أنيسه في الوحشة فأين هذه من صحبة علي ع له في خلوته و حيث لا يجد أنيسا غيره ليله و نهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 253معه سرا و يتكلف له الحاجة جهرا و يخدمه كالعبد يخدم مولاه و يشفق عليه و يحوطه و كالولد يبر والده و يعطف عليه ولما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله ص قالت أما من الرجال فعلي و أما من النساء ففاطمة(14/282)
قال الجاحظ و كان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه و شده مع طلحة بن عبيد الله في قرن و جعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة و لذلك كانا يدعيان القرينين و لو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا و بلوغ منزلته شديدا و لو كان يوما واحدا لكان عظيما و علي بن أبي طالب رافه وادع ليس بمطلوب و لا طالب و ليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة و النجدة و في غريزته البسالة في الشجاعة لكنه لم يكن قد تمت أداته و لا استكملت آلته و رجال الطلب و أصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة و يزدرون بذي الصبا و الغرارة إلى أن يلحق بالرجال و يخرج من طبع الأطفال. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما القول فممكن و الدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ فإنه ليس على لسانه من دينه و عقله رقيب و هو من دعوى الباطل غير بعيد فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع و كلامه لعب و لهو يقول الشي ء و خلافه و يحسن القول و ضده ليس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم و إلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ لم يكن مطلوبا و لا طالبا و قد بينا بالأخبار الصحيحة و الحديث المرفوع المسند أنهكان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه و قلبه لمشركي قريش شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 254ثقيلا على قلوبهم و هو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب و صاحب الخلوات برسول الله ص في تلك الظلمات المتجرع لغصص المرار من أبي لهب و أبي جهل و غيرهما و المصطلي لكل روه و الشريك لنبيه في كل أذى قد نهض بالحمل الثقيل و بان بالأمر الجليل و من الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق و يخفي نفسه و يضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي و غيره فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق و القمح و هو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل و غيره لو ظفروا به(14/283)
لأراقوا دمه أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر و قد ذكر هو ع حاله يومئذ
فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا ألا يعاملونا و لا يناكحونا و أوقدت الحرب علينا نيرانها و اضطرونا إلى جبل وعر مؤمننا يرجو الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم و قطعوا عنهم المارة و الميرة فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء لا يرون وجها و لا فرجا قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم(14/284)
فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد ص إلا علي ع وحده و ما عسى أن يقول الواصف و المطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها و بلوغ غاية كنهها و فضيلة الصابر عندها و دامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة و القصة مشهورة. و كيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي ع إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا و لا طالبا و هو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ص بنفسه و وقاه بمهجته و احتمل السيوف و رضح الحجارة دونه و هل ينتهي الواصف و إن أطنب و المادح و إن أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة و الإيضاح بمزية هذه الخصيصة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 255فأما قوله إن أبا بكر عذب بمكة فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه فأنتم في أبي بكر بين أمرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا و هجينا رذيلا مستضعفا ذليلا و تارة تجونه رئيسا متبعا و كبيرا مطاعا فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم و لو كان الفضل في الفتنة و العذاب لكان عمار و خباب و بلال و كل معذب بمكة أفضل من أبي بكر لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه و نزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قالوا نزلت في خباب و بلال و نزل في عمار قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و كان رسول الله ص يمر على عمار و أبيه و أمه و هم يعذبون يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم
فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة(14/285)