قدم علينا بعبادان راهب من الشام و نزل دير ابن أبي كبشة فذكروا حكمة كلامه فحملني ذلك على لقائه فأتيته و هو يقول إن لله عبادا سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض أمرهم فإنهم قوم قد ملكت الآخرة قلوبهم فلم تجد الدنيا فيها ملبسا فالحزن بثهم و الدمع راحتهم و الدءوب وسيلتهم و حسن الظن قربانهم يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح أهلها فهم فيها مسجونون و إلى الآخرة منطلقون. فما سمعت موعظة كانت أنفع لي منها. و من جيد شعر أبي نواس في الزهد
يا بني النقص و الغير و بني الضعف و الخورو بني البعد في الطباع على القرب في الصور
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 261و الشكول التي تباين في الطول و القصرأين من كان قبلكم من ذوي البأس و الخطرسائلوا عنهم المدائن و استبحثوا الخبرسبقونا إلى الرحيل و إنا لبالأثرمن مضى عبرة لنا و غدا نحن معتبرأن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصرفكأني بكم غدا في ثيابن المدرقد نقلتم من القصور إلى ظلمة الحفرحيث لا تضرب القباب عليكم و لا الحجرحيث لا تطربون منه للهو و لا سمررحم الله مسلما ذكر الموت فازدجررحم الله مؤمنا خاف فاستشعر الحذر
و من جيد شعر الرضي أبي الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا و تقلبها بأهلها
و هل نحن إلا مرامي السهام يحفزها نابل دائب نسر إذا جازنا طائش و نجزع إن مسنا صائب ففي يومنا قدر لا بد و عند غد قدر واث شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 262طرائد تطردها النائبات و لا بد أن يدرك الطالب أرى المرء يفعل فعل الحديد و هو غدا حمأ لازب عواري من سلب الهالكين يمد يدا نحوها السالب لنا بالردى موعد صادق و نيل المنى موعد كاذب حبائل للدهر مبثوثه يرد إلى جذبها الهارب و كز غاياتنا و قد بلغ المورد القارب نصبح بالكأس مجدحة ذعافا و لا يعلم الشاربو قال أيضا و هي من محاسن شعره(12/216)
ما أقل اعتبارنا بالزمان و أشد اغترارنا بالأماني وقفات على غرور و إقدام على مزلق من الحدثان في حروب مع الردى فكانا اليوم في هدنة مع الأزمان و كفانا مذكرا بالمنايا علمنا أننا من الحيوان كل يوم رزية بفلان و وقوع من الردى بفلان كم تراني أضل نفسا و ألهو فكثقت بالوجدان قل لهذي الهوامل استوقفي السير أو استنشدي عن الأعطان و استقيمي قد ضمك اللقم النهج و غني وراءك الحاديا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 263كم محيدا عن الطريق وقد ضرح خلج البرى و جذب العران ننثني جازعين من عدوة الدهر و نرتاع للمنايا الرواني جفلة السرب في الظلام و قد ذعذع روعا من عدوة الذؤبان ثم ننسى جرح الحمام و إن كان رغيبا يا قرب ذا النسيان كل يوم تزايل م بالردى أو تباعد من دان و سواء مضى بنا القدر الجد عجولا أو ماطل العصرانو أيضا من هذه القصيدة قد مررنا على الديار خشوعا و رأينا البنا فأين الباني و جهلنا الرسوم ثم علمنا فذكرنا الأوطار بالأوطان التفاتا إلى القرون الخوالي هل ترى اليوم غير قرن فان أين رب السدير فالحيرة البيضاء أم أين صاحب الإيوان و السيوف الحداد من آل بدر و القنا الصم من بني الرردتهم وقائع الدهر عن لعلع طرد السفاف عن نجران و المواضي من آل جفنة أرسى طنبا ملكهم على الجولان يكرعون العقار في فلق الإبريز كرع الظماء في الغدران من أباة اللعن الذين يحيون بها في معاقد التيجان تتراءاهم الوفود بعيدا ضاربين الصدور بالأذ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 264في رياض من السماح حوال و جبال من الحلوم رزان و هم الماء لذ للناهل الظمآن بردا و النار للحيران كل مستيقظ الجنان إذا أظلم ليل النوامة المبطان يغتدي في السباب غير شجاع و يرى في النزال غير جبان ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء ا من المران عطف الدهر فرعهم فرءاه بعد بعد الذرى قريب المجاني وثنتهم بعد الجماح المنايا في عنان التسليم و الإذعان عطلت منهم المقاري و باخت في حماهم مواقد(12/217)
النيران ليس يبقى على الزمان جري ء في إباء أو عاجز في هوان لا شبوب من الصوار و لا أعنق يرعى منابت ن لا و لا خاضب من الربد يختال بريط أحم غير يمان يرتمي وجهة الرئال إذا آنس لون الإظلام و الإدجان و عقاب الملاع تلحم فرخيها بإزليقة زلول القنان نائلا في مطامح الجو هاتيك و ذا في مهابط الغيو هذا شعر فصيح نادر معرق في العربية. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 265و من شعره الجيد أيضا في ذكر الدنيا و مصائبهاأ و ما رأيت وقائع الدهر أ فلا تسي ء الظن بالعمربينا الفتى كالطود تكنفه هضباته و العضب ذي الأثريأبى الدنية في عشيرته و يجاذب الأيدي على الفخرو إذا أشار إلى قبائله حشدت عليه بأوجه غريترادفون على الرماح فهم سيل يعب و عارض يسري إن نهنهوا زادوا مقاربة فكأنما عون بالزجرعدد النجوم إذا دعي بهم يتزاحمون تزاحم الشعرعقدوا على الجلى مآزرهم سبطي الأنامل طيبي النشرزل الزمان بوطء أخمصه و مواطئ الأقدام للعثرنزع الإباء و كان شملته و أقر إقرارا على صغرصدع الردى أعيا تلاحمه من ألحم الصدفين بالقطرجر الجياد على الوجى و مضى أمما يدق السهل بالوعرحتى التقى بالشمس مغمدة في قعر منقطع من البحرثم انثنت كف المنون به كالضغث بين الناب و الظفرلم تشتجر عنه الرماح و لا رد القضاء بماله الدثرجمع الجنود وراءه فكأنما لاقته و هو مضيع الظهرو بنى الحصون تمنعا فكأنما أمسى بمضيعة و ما يدري و بري امعابل للعدا فكأنما لحمامه كان الذي يبري
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 266إن التوقي فرط معجزة فدع القضاء يقد أو يفري و حمى المطاعم للبقا و ذي الآجال مل ء فروجها تجري لو كان حفظ النفس ينفعنا كان الطبيب أحق بالعمرالموت داء لا دواء له سيان ما يوبي و ما و هذا من حر الكلام و فصيحه و نادره و لا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة و هذا القبس من تلك النار(12/218)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 222267- و من دعاء له عاللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الآْنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ وَ لَا بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ
أنست ضد وحشت و الإيناس ضد الإيحاش و كان القياس أن يقول إنك آنس المؤنسين لأن الماضي أفعل و إنما الآنسون جمع آنس و هو الفاعل من أنست بكذا لا من آنست فالرواية الصحيحة إذن بأوليائك أي أنت أكثرهم أنسا بأوليائك و عطفا و تحننا عليهم. و أحضرهم بالكفاية أي أبلغهم إحضارا لكفاية المتوكلين عليهم و أقومهم بذلك شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 268تشاهدهم في سرائرهم أي تطلع على غيبهم و البصائر العزائم نفذت بصيرته في كذا أي حق عزمه. و قلوبهم إليك ملهوفة أي صارخة مستغيثه. و فههت عن مسألتي بالكسر عييت و الفهة و الفهاهة العي رجل ه و رجل فه أيضا و امرأة فههة قال الشاعر
فلم تلفني فها و لم تلف حاجتي ملجلجة أبغي لها من يقيمها(12/219)
و قد فههت يا رجل فهها أي عييت و يقال سفيه فهيه و فههه الله و خرجت لحاجة فأفهني عنها فلان أي أنسانيها. و يروى أو عمهت بالهاء و الميم المكسورة و العمه التحير و التردد عمه الرجل فهو عمه و عامه و الجمع عمه و أرض عمهاء لا أعلام بها. و النكر العجب و البدع المبتدع و منه قوله تعالى قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي لم آت بما لم أسبق إليه. و مثل قوله ع اللهم احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك قول المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديما ليسعنا عدلكم قالت الهاشمية إذن لا نبقي منكم أحدا لأنكم حاربتم عليا ع و سممتم الحسن ع و قتلتم الحسين و زيدا و ابنه و ضربتم علي بن عبد الله و خنقتم إبراهيم الإمام في جراب النورة. قالت قد يسعنا عفوكم قالت أما هذا فنعم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 26أدعية فصيحة من كلام أبي حيان التوحيدي(12/220)