شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 247إليه و ذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ و قد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية و الخاطر و كفاه علاج القلب و اضطراب النفس و زيد و خباب و أبو بكر يعانون من كلفة النظر و مؤنة التأمل و مشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هغير خاف و لو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا كان إسلامهم أفضل من إسلامه لأن من أسلم و هو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم و موضعا في بني عبد المطلب ليس كالحليف و المولى و التابع و العسيف و كالرجل من عرض قريش أ و لست تعلم أن قريشا خاصة و أهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي ص ما كان أبو طالب حيا و أيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر و علي ع كان بحضرة رسول الله ص يشاهد الأعلام في كل وقت و يحضر منزل الوحي فالبراهين له أشد انكشافا و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا و على قدر الكلفة و المشقة يعظم الفضل و يكثر الأجر. قال أبو جعفر رحمه الله ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل و يقفوا على قول الجاحظ و الأصم في نصرة العثمانية و اجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجينها فمرة يبطلان معناها و مرة يتوصلان إلى حط قدرها فلينظر في كل باب اعترضا فيه أين بلغت حيلتهما و ما صنعا في احتيالهما في قصصهما و سجعهما أ ليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى و أنها عليها شجى و بلاء و إلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد و يغني كيد الكائد الشانئ لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءة الشمس و أين قول الجاحظ من دلائل السماء و براهين الأنبياء و قد علم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 248الصغير و الكبير و العالم و الجاهل ممن بلغه ذكر علي ع و علم مبعث النبي ص أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام و لا غذي في حجر الإيمان و إنما استضافه رسول الله ص إلنفسه سنة القحط و المجاعة و عمره يومئذ ثماني سنين فمكث معه سبع سنين(14/276)
حتى أتاه جبرئيل بالرسالة فدعاه و هو بالغ كامل العقل إلى الإسلام فأسلم بعد مشاهدة المعجزة و بعد إعمال النظر و الفكرة و إن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم فإنما يعني ما بين الثمان و الخمس عشرة و لم يكن حينئذ دعوة و لا رسالة و لا ادعاء نبوة و إنما كان رسول الله ص يتعبد على ملة إبراهيم و دين الحنيفية و يتحنث و يجانب الناس و يعتزل و يطلب الخلوة و ينقطع في جبل حراء و كان علي ع معه كالتابع و التلميذ فلما بلغ الحلم و جاءت النبي ص الملائكة و بشرته بالرسالة دعاه فأجابه عن نظر و معرفة بالأعلام المعجزة فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضبا. و إن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله ص قبل الدعوة لتكونن طاعة كثير من المكلفين أفضل من طاعة رسول الله ص و أمثاله من المعصومين لأن العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف. و كيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره و قد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء و استنبئ النبي ص يوم الإثنين فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه و لا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته و لا تطاول الوقت عليه لتخف محنته و يسقط ثقل تكليفه بل بان فضله و ظهر حسن اختياره لنفسه إذ أسلم في حال بلوغه و عانى نوازع طبعه و لم يؤخر ذلك بعد سماعه.(14/277)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 249و قد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا و رئيسا معروفا يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار و يتذاكرون الأخبار و يشربون الخمر و قد كان سمع دلائل النبوة و حجج الرسل و سافر إلى البلدان و وصلت إليه أخبار و عرف دعوى الكهنة و حيل السحرة و من كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر و الإسلام عليه أسهل و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا و كل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام و مسهل إليه سبيله و لذلك لما قال النبي ص أتيت بيت المقدس سأله أبو بكر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبيت فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب و في ذلك رويتم
عنه ص أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و كان له تردد و نبوة إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة و الإسلام(14/278)
فأين هذا و إسلام من خلي و عقله و ألجئ إلى نظره مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته في ضد ما دخل فيه و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة و لم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية فقهر شهوته و غالب خواطره و خرج من عادته و ما كان غذي به لصحة نظره و لطافة فكره و غامض فهمه فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه و لم يأخذ من الدنيا بنصيب و لا تنعم فيها بنعيم حدثا و لا كبيرا و حمى نفسه عن الهوى و كسر شرة حداثته بالتقوى و اشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا و أشغل هم الآخرة قلبه و وجه إليه رغبته فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره و ما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء ليعلم أن منزلته من النبي ص كمنزلة هارون من موسى و أنه و إن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا و لمنهاجهم متبعا و كانت حاله كحال إبراهيم ع فإن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 250أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربي قالت أبوك قال فمن رب أبي فزبرته و نهرته إلى أن طلع من شق السرب فرأى كوكبا فقال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بري ء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين و في ذلك يقول اله جل ثناؤه وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ و على هذا كان إسلام الصديق الأكبر ع لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة و لكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ(14/279)
آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ و أما اعتلال الجاحظ بأن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر و بلال و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص لأن أبا طالب ظهره و بني هاشم ردؤه و حسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ع إلا بحطه من قدر رسول الله ص و لم يكن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته الأدنى منهم فالأدنى كأبي لهب عمه و امرأة أبي لهب و هي أم جميل بنت حرب بن أمية و إحدى أولاد عبد مناف ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط و هو ابن عمه و ما كان من النضر بن الحارث و هو من بني عبد الدار بن قصي و هو ابن عمه أيضا و غير هؤلاء ممن يطول تعداده و كلهم كان يطرح الأذى في طريقه و ينقل أخباره و يرميه بالحجارة و يرمي الكرش شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 251و الفرث عل و كانوا يؤذون عليا ع كأذاه و يجتهدون في غمه و يستهزءون به و ما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي و لما كان بين علي و بين النبي ص من الاتحاد و الإلف و الاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ص خوفا من سيفه و لأنه صاحب الدار و الجيش و أمره مطاع و قوله نافذ فخافوا على دمائهم منه فاتقوه و أمسكوا عن إظهار بغضه و أظهروا بغض علي ع و شنآنه فقال رسول الله ص في حقه في
الخبر الذي روي في جميع الصحاح لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
و قال كثير من أعلام الصحابة كما
روي في الخبر المشهور بين المحدثين ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب(14/280)