ستين و قيل ابن ستين و قيل ابن تسع و خمسين. فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال و إنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علي فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا و يولد له الأولاد فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 237إلا باثنتي عشرة سنة و هذا يوجب أنه احتلم و بلغ في أقل من إحدى عشرة سنة. و روي أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس بإحدى عشرة سنة فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسوللله ص غير مسلم على الحقيقة و لا مثاب و لا مطيع بالإسلام لأنه كان 0- يومئذ ابن عشر سنين رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال توفي رسول الله ص و أنا ابن عشر سنين. قال الجاحظ فإن قالوا فلعله و هو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته و ذكائه و صحة لبه و صدق حدسه و انكشاف العواقب له و إن لم يكن جرب الأمور و لا فاتح الرجال و لا نازع الخصوم ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته و الإقرار به قيل لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال و ما شاهدنا عليه طبائع الأطفال فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان ما لم يعلم باطن أمره و خاصة طبعه حكم الأطفال و ليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه و الذي نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى لأنا و إن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة فلعله قد كان ذا نقص فيها. هذا على تجويز أن يكون علي ع في الغيب قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ غير أن الحكم على مجرى أمثاله و أشكاله الذين أسلموا و هم في مثل سنه إذ كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن و تلقين القيم و رياضة السائس. فأما عند التحقيق فإنه لا تجويز لمثل ذلك لأنه لو كان أسلم و هو ابن سبع شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 238أو(14/266)
ثمان و عرفضل ما بين الأنبياء و الكهنة و فرق ما بين الرسل و السحرة و فرق ما بين خبر النبي و المنجم و حتى عرف كيد الأريب و موضع الحجة و بعد غور المتنبئ كيف يلبس على العقلاء و تستمال عقول الدهماء و عرف الممكن في الطبع من الممتنع و ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب و عرف قدر القوى و غاية الحيلة و منتهى التمويه و الخديعة و ما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه و ما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز و كيف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع لكان كونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثة و قلة التجارب و الممارسة خروجا من العادة و من المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة و ليس يصل أحد إلى معرفة نبي و كذب متنبئ حتى يجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها و الأسباب التي وصفناها و فصلناها و لو كان علي ع على هذه الصفة و معه هذه الخاصية لكان حجة على العامة و آية تدل على النبوة و لم يكن الله عز و جل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا و هو يريد أن يحتج بها و يجعلها قاطعة لعذر الشاهد و حجة على الغائب و لو لا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا و أنه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم و لا في المغيب إلا كسائر الرسل و ما عليه جميع البشر فإذا لم ينطق لعلي ع بذلك قرآن و لا جاء الخبر به مجي ء الحجة القاطعة و المشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة و العباس و هما أمس بمعدن جماع الخير منه أو كطباع جعفر و عقيل من رجال قومه و سادة رهطه و لو أن إنسانا ادعى مث ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة و العباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال هذا كله مبني على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان و نحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة على(14/267)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 239أنا لو نزلنا على حكم الخصوم و قلنا ما هو الأشهر و الأكثر من الرواية و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ لأن ابن عشر قد يستجمع عقله و يعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة و متى كان الصبي قلا مميزا كان مكلفا بالعقليات و إن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر و غاية أخرى فليس بمنكر أن يكون علي ع و هو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة و أسلم إسلام عالم عارف لا إسلام مقلد تابع و إن كان ما نسقه الجاحظ و عدده من معرفة السحر و النجوم و الفصل بينهما و بين النبوة و معرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز و ما لا يحدثه إلا الخالق و الفرق بينه و بين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة و معرفة التمويه و الخديعة و التلبيس و المماكرة شرطا في صحة الإسلام لما صح إسلام أبي بكر و لا عمر و لا غيرهما من العرب و إنما التكليف لهؤلاء بالجمل و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها و ليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم و إنما يفتقر إلى صحة الغريزة و كمال العقل و سلامة الفطرة أ لا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال و لا نازع الخصوم ثم كمل عقله و حصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات. فأما توهمه أن عليا ع أسلم عن تربية الحاضن و تلقين القيم و رياضة السائس فلعمري إن محمدا ص كان حاضنه و قيمه و سائسه و لكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب و لا عن إخوته طالب و عقيل و جعفر و لا عن عمومته و أهل بيته و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص فما باله لم يمل إلى الشرك و عبادة الأصنام لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله و هم كثير و محمد ص واحد و أنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة و فيهم واحد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 240يذهب إلى رأي مفرد لا(14/268)
يوافقه عليه غيره منهم فإنه إلى ذوي الكثرة أميل و عن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد و على أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام و إنما ولد في دار الشرك و ربي بين المشركين و شاهد الأصنام و عاين بعينه أهله رهطه يعبدونها فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال و لقيل إنه ولد بين المسلمين فإسلامه عن تلقين الظئر و عن سماع كلمة الإسلام و مشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره و لا خطر بباله سواه فلما لم يكن ولد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه و لو لا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ص بذلك و لا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما و لا قرن إلى قوله و أكثرهم علما و أعظمهم حلما و الحلم العقل و هذان الأمران غاية الفضل فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم اللذين وصفه بهما و كيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه و لا معاقبا به لو تركه و لو كان إسلامه عن تلقين و تربية لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد و لا خطب على المنبر و هو بين عدو و محارب و خاذل منافق فقال أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر و الفاروق الأعظم صليت قبل الناس سبع سنين و أسلمت قبل إسلام أبي بكر و آمنت قبل إيمانه فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد ص ذلك و تلقينه إياك كما يعلم الطفل الفارسية و التركية منذ يكون رضيعا فلا فخر له في تعلم ذلك و خصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة و الشام و النهروان و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء فقال فيه النعمان بن بشير شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 24لقد طلب الخلافة من بعيد و سارع في الضلال أبو تراب معاوية الإمام و أنت منها على وتح بمنقطع السرابو قال فيه أيضا بعض الخوارج(14/269)
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم جزاء إذا ما جاء نفسا كتابهاأبا حسن خذها على الرأس ضربة بكف كريم بعد موت ثوابها
و قال عمران بن حطان يمدح قاتله
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناإني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه لبدءوا بذلك و تركوا ما لا معنى له. و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه و لقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك و عابوه فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم و عابوه بقوله في أمهات الأولاد. ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر و قد أجازه النبي ص يوم الخندق و لم يجزه يوم أحد هل كان يميز ما ذكرته و هل كان يعلم فرق ما بين النبي و المتنبئ و يفصل بين السحر و المعجزة إلى غيره مما عددت و فصلت. فإن قال نعم و تجاسر على ذلك قيل له فعلي ع بذلك أولى من ابن عمر لأنه أذكى و أفطن بلا خلاف بين العقلاء و أنى يشك في ذلك و قد رويتم أنه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 242لم يميز بين الميزان و العود بعد طوللسن و كثرة التجارب و لم يميز أيضا بين إمام الرشد و إمام الغي فإنه امتنع من بيعة علي ع و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام زعم لأنه روي عن النبي ص أنه قال من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال أصفق بيدك عليها فذلك تمييزه بين الميزان و العود و هذا اختياره في الأئمة و حال علي ع في ذكائه و فطنته و توقد حسه و صدق حدسه معلومة مشهورة فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر و يقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ و نسقها و أظهر فصاحته و تشدقه فيها فعلي بمعرفة ذلك أحق و بصحة إسلامه(14/270)