فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله و أعجز من يأتي بعده هلم حديث الحديدة.
قال نعم أقويت و أصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني و جئته بهم و البؤس و الضر ظاهران عليهم فقال ائتني عشية لأدفع إليك شيئا فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي ثم قال أ لا فدونك فأهويت حريصا قد غلبني الجشع أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا فلما قبضتها نبذتها و خرت كما يخور الثور تحت يد جازره فقال لي ثكلتك أمك هذا من حديدة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 254أوقدت لها نار الدنيا فكيف بك و بي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم ثم قرأ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. ثقال ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى فانصرف إلى أهلك
فجعل معاوية يتعجب و يقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 220255- و من دعاء له عاللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لَا تَبْذُلْ جَاهِي بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَ الْمَنْعِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ صن وجهي باليسار أي استره بأن ترزقني يسارا و ثروة أستغني بهما عن مسألة الناس. و لا تبذل جاهي بالإقتار أي لا تسقط مروءتي و حرمتي بين الناس بالفقر الذي أحتاج معه إلى تكفف الناس. و روي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الجواد رقت حاله في آخر عمره لأن عبد الملك جفاه فراح يوما إلى الجمعة فدعا فقال اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك فلم يلحق الجمعة الأخرى. و
كان الحسن بن علي ع يدعو فيقول اللهم وسع علي فإنه لا يسعني إلا الكثير(12/211)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 256قوله فأسترزق منصوب لأنه جواب الدعاء كقولهم ارزقني بعيرا فأحج عليه بين ع كيفية تبذل جاهه بالإقتار و فسره فقال بأن أطلب الرزق ممن يطلب منك الرزق. و أستعطف الأشرار من الناس أي أطلب عاطفتهم و إفضالهم و يلزم من ذلك أمران محذورانحدهما أن أبتلى بحمد المعطي. و الآخر أن أفتتن بذم المانع. قوله ع و أنت من وراء ذلك كله مثل يقال للمحيط بالأمر القاهر له القادر عليه كما نقول للملك العظيم هو من وراء وزرائه و كتابه أي مستعد متهيئ لتتبعهم و تعقبهم و اعتبار حركاتهم لإحاطته بها و إشرافه عليها. و ولي مرفوع بأنه خبر المبتدإ و يكون خبرا بعد خبر و يجوز أن يكون ولي هو الخبر و يكون من وراء ذلك جملة مركبة من جار و مجرور منصوبة الموضع لأنه حال(12/212)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 221257- و من خطبة له عدَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ تَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَ الْأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وَ إِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدِفَةٌ تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَ تُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَ أَعْمَرَ دِيَاراً وَ أَبْعَدَ آثَاراً أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَ رِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً وَ أَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَ دِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَ آثَارُهُمْ عَافِيَةً فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ وَ النَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ الصُّخُورَ وَ الْأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةَ وَ الْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا وَ شُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَ سَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَ أَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ وَ لَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَ دُنُوِّ الدَّارِ وَ كَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وَ قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى وَ أَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَ الثَّرَى وَ كَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ وَ ارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وَ ضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الْأَمُورُ وَ بُعْثِرَتِ الْقُبُورُ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 258نَفْسٍ(12/213)


ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
بالبلاء محفوفة قد أحاط بها من كل جانب. و تارات جمع تارة و هي المرة الواحدة و متصرفة منتقلة متحولة. و مستهدفة بكسر الدال منتصبة مهيأة للرمي و روي مستهدفة بفتح الدال على المفعولية كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها أهدافا. و رياحهم راكدة ساكنة و آثارهم عافية مندرسة. و القصور المشيدة العالية و من روى المشيدة بالتخفيف و كسر الشين فمعناه المعمولة بالشيد و هو الجص. و النمارق الوسائد. و القبور الملحدة ذوات اللحود. و روي و الأحجار المسندة بالتشديد. قوله ع قد بني على الخراب فناؤها أي بنيت لا لتسكن الأحياء فيها كما تبنى منازل أهل الدنيا. و الكلكل الصدر و هو هاهنا استعارة. و الجنادل الحجارة و بعثرت القبور أثيرت. و تبلو كل نفس ما أسلفت تخبر و تعلم جزاء أعمالها و فيه حذف مضاف و من شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 259قرأ تتلو بالتاء بنقطتين أي تقرأ كل نفس كتابها و ضل عنهم ما كاا يفترون بطل عنهم ما كانوا يدعونه و يكذبون فيه من القول بالشركاء و أنهم شفعاء
ذكر بعض الآثار و الأشعار الواردة في ذم الدنيا(12/214)


و من كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا أما بعد فإن الدنيا قد عاتبت نفسها بما أبدت من تصرفها و إنبات عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها و دلت على عوراتها بتغير حالاتها و نطقت ألسنة العبر فيها بزوالها و شهد اختلاف شئونها على فنائها و لم يبق لمرتاب فيها ريب و لا ناظر في عواقبها شك بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين و كشفوها أوضح تكشيف ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم و دلتهم الآمال بغرور فلججت بهم في غمرات العجز فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة و رتعوا في عراصها عارفين بالخدعة فكان يقينهم شكا و علمهم جهلا لا بالعلم انتفعوا و لا بما عاينوا اعتبروا قلوبهم عالمة جاهلة و أبدانهم شاهدة غائبة حتى طرقتهم المنية فأعجلتهم عن الأمنية فبغتتهم القيامة و أورثتهم الندامة و كذلك الهوى حلت مذاقته و سمت عاقبته و الأمل ينسى طويلا و يأخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه و جاهد هواه أن يضله و جانب أمله أن يغره و قوي يقينه على العمل و نفى عنه الشك بقطع الأمل فإن الهوى و الأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه و إذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه فصريعهما لا ينهض سالما و خديعهما لا يزال نادما و القوي من قوي عليهما و الحازم من احترس منهما ألبسنا الله و إياكم جنة السلامة و وقانا و إياكم سوء العذاب. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 260كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرأ أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ. قال منصور بن عمار لأهل مجلسما أرى إساءة تكبر على عفو الله فلا تيأس و ربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن و قد علمت أنك بطول عفو الله عنك عمرت مجالس الاغترار به و رضيت لنفسك المقام على سخطه و لو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه و لا قصرت دون المبالغة فيه و لكنك رهين غفلتك و أسير حيرتك. قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب(12/215)

11 / 147
ع
En
A+
A-