لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام. و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ ليس بأمر على الحقيقة و إنما هو تهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ و لا بد للمرتضى و لقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل لأنه ليس لأحدهما بمسوغ أن يحمل الأمر على حقيقته لأن الشارع لا يأمر بالقعود و ترك الجهاد مع القدرة عليه و كونه قد تعين وجوبه. فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية و هي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أنزلت بعد غزوة تبوك و بعد نزول سورة براءة التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ليس إخبارا محضا كما تأولته أنت و حملت الآية عليه بل معناه لا أخرجكم معي و لا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال قلت لا لأن للإمامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة لما سيره إلى البلقاء و قال له سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول و حشد معه أكثر المسلمين فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 196في غزاة تبوك إلى قوم أولي بأس شديد و لم يخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا. فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة فكأنما خرجوا مع رسول الله و إذا حاربوا مع أسا العدو فكأنما حاربوا مع رسول الله ص و قد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص و لا يحاربون معه عدوا قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الوليد و غيره في أيام أبي بكر و مع أبي عبيدة و سعد في أيام عمر فكأنما خرجوا مع رسول الله ص و حاربوا العدو معه أيضا. فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه و الحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه(14/226)


و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه قيل لك و كذلك خروجهم مع أسامة و محاربة العدو معه و إن شابه الخروج مع النبي و محاربة العدو معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه و إنما هو مع بعض أمرائه. و يمكن أن يعترض الاستدلال بالآية فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة لأنهم كانوا مسلمين و إنما منعوا الزكاة مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ص و منع الزكاة لا يخرج به الإنسان عن الإسلام عند المرجئة و الإمامية مرجئة و لا يجوز حملها على فارس و الروم لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم و إسلامهم كما تقول إما كذا و إما كذا فيقتضي ذلك نفي الواسطة و قتال فارس و الروم بينه و بين إسلامهم واسطة و هو دفع الجزية و إنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية فالآية إذن دالة على أن المخلفين سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم إما قتالهم و إما إسلامهم و هؤلاء هم مشركو العرب و لم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص فالداعي لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآية(14/227)


شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 197أَنَا وَضَعْتُ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وَ نَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِه ص مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ(14/228)


الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة و الكلاكل الصدور الواحد كلكل و المعنى أني أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 198و نواجم قرون ربيعة و مضر من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صيته. فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة و لم نعرف أنقتل منهم أحدا قلت بلى قد قتل بيده و بجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل و هذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان. و العرف بالفتح الريح الطيبة و مضغ الشي ء يمضغه بفتح الضاد. و الخطلة في الفعل الخطأ فيه و إيقاعه على غير وجه. و حراء اسم جبل بمكة معروف. و الرنة الصوت
ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره(14/229)


و القرابة القريبة بينه و بين رسول الله ص دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره ثم حامى عنه و نصره عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار و نحن نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل. روى الطبري في تاريخه قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد قال كان من نعمة الله عز و جل على علي بن أبي طالب ع و ما صنع الله له و أراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله ص للعباس و كان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بيته واحدا و تأخذ واحدا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 199فنكفيهما عنه فقال العباس نعم فالقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه و أخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي ع فأقر به و صدقه و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه. قال الطبري و حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق قال كان رسول الله ص إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة و خرج معه علي بن أبي طالب ع مستخفيا من عمه أبي طالب و من جميع أعمامه و سائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما و هما يصليان فقال لرسول الله ص يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به قال يا عم هذا دين الله و دين ملائكته و دين رسله و دين أبينا إبراهيم أو كما قال بعثني الله به رسولا إلى العباد و أنت يا عم(14/230)

109 / 147
ع
En
A+
A-