شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 190فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل و صفين قيل هذا فاسد من وجهين أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و الذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام و لم يقاتلوا على الكفر و الوجه الثاني أنا لا نعرف من الذينناهم الله تعالى بهذا من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر. اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص و ذلك لأن قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً. إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل و إطباق المفسرين. ثم قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا و إنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك و أمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة لأن الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية و أنه لا حظ لمن لم يشهدها و هذا هو معنى قوله تعالى يُرِيدُونَ(14/221)
أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ و قوله كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 191مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و إنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد و قد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة إلى قوم أولي بأس شديد كمؤتة و حنين و تبوك و غيرهما فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر. و قوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ إنما أراد به ما بينه في قوله فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع و آية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها. و ليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة و بما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي و الأسباب التي وردت عليها و تعلقت بها. و مما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم نرجع في ذلك إلى نقل و تاريخ قوله تعالى في هؤلاء فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فلم يقطع منهم على طاعة و لا معصية بل ذكر الوعد و الوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية و حكم المذكورين في آية سورة التوبة بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ(14/222)
أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ و اختلاف أحكامهم و صفاتهم يدل
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 192على اختلافهم و أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية سورة التوبة. و أما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره لأن المسيب روى عأبي روق عن الضحاك في قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية قال هم ثقيف و روى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير قال هم هوازن يوم حنين. و روى الواقدي عن معمر عن قتادة قال هم هوازن و ثقيف فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا و كم استخرج جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه و لها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون و لا دخل في جملة تفسيرهم و تأويلهم. و الوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص و قال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده الناكثين و القاسطين و المارقين و بشره النبي ص بأنه يقاتلهم و قد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة. قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ و أن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده و عند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان إذ كان الإيمان هو الإسلام شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 193علمذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله مظهرا أنه في ارتكابه على حق و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر(14/223)
بالإجماع و استحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم و أكابرهم أعظم من شرب الخمر و استحلاله فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا. الثاني
أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي و سلمك سلمي
و نحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام و من أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف. الثالث
أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله
و قد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة. الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي ء لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما و مقطوعا عليه فهو مجوز و غير معلوم خلافه و الجواز كاف لنا فيهذا الموضع. و لو قيل له من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة و هذا بعينه يمكن أن يقال له و يعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع على ما يوجبه حكم الآية. فإن قيل كيف يكون أهل الجمل و صفين كفارا و لم يسر أمير المؤمنين ع شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 194فيهم بسيرة الكفار لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع موليهم قلنا أحكام الكفر تختلف و إن شملهم ا الكفر لأن في الكفار من يقتل و لا يستبقى و فيهم من يؤخذ منه الجزية و لا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا و إن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار و يرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله ع و سيرته فيهم على أنا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا و لا يقتل موليا و لا يجهز على جريحه إلى غير ذلك من الأحكام(14/224)
التي سيرها في أهل البصرة و صفين. فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة و فعل أمير المؤمنين هو الحجة في أن حكم أهل البصرة و صفين ما فعله قلنا مثل ذلك حرفا بحرف و يمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي و لا على إمامته لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق و الصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا لدعاء الداعي إليه و أبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام و هذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع و الطاعة فيه طاعة لله تعالى فمن أين له أن الداعي كان على حق و صواب و ليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك. و يمكن أيضا أن يكون قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين و رفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال و وجبت عليهم الطاعة و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أيضا تحتمله الآية. شرح نهج الاغة ج : 13 ص : 195فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع و أكثره جيد لا اعتراض عليه و قد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية ما يدل على أن النبي ص لا يكون هو الداعي لهم إلى القوم أولي البأس الشديد لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم بأنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون العدو معه و ليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم كما
أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي(14/225)