و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 185عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ثم قال قاضي القضاة في المعنى و هذا خبر من الله تعالى و لا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به و الذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر و أصحابه فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و ذلك يوجب أن يكونوا على صواب. و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في الشافي فقال من أين قلت إن الآية نزلت في أبي بكر و أصحابه فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص و لا أحد قاتلهم سواهم قيل له و من الذي سلم لك ذلك أ و ليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين بعد الرسول ص و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدين و يشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة و الله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم و تلاها و قد روي عن عمار و حذيفة و غيرهما مثل ذلك. فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر و أصحابه قول أهل التفسير قيل له أ و كل أهل التفسير قال ذلك فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة التأويل الذي ذكرناه و لو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع و وجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى و إن قال حجتي قول بعض المفسرين قلنا و أي حجة في قول البعض و لم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق من البعض الذي قال ما ذكرنا. ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 186تراعا لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك و قد جعله الرسول ص في خيبر حين(14/216)


فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف
فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار فدفعها إلى أمير المؤمنين ع
ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا لأنه من المعلوم بلا خلاف حال أمير المؤمنين ع في التخاشع و التواضع و ذم نفسه و قمع غضبه و أنه ما رئي قط طائشا و لا متطيرا في حال من الأحوال و معلوم حال صاحبيكم في هذا الباب أما أحدهما فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه و أما الآخر فكان معروفا بالجد و العجلة مشهورا بالفظاظة و الغلظة و أما العزة على الكافرين فإنما تكون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم و هذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق و لا لحقه فيها لاحق. ثم قال تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ و هذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع و هو منتف عن أبي بكر و صاحبه إجماعا لأنه لا قتيل لهما في الإسلام و لا جهاد بين يدي الرسول ص و إذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين ع و غير حاصلة لمن ادعيتم لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد و ضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد و على من أثبتها لهم الدلالة على حصولها و لا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية لم يبق في يده من الآية دليل. هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله و لقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 187على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذكره فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص في واقعة الأسود العنسي باليمن فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به و ارتدوا عن الإسل و ادعوا له النبوة و اعتقدوا صدقه و القوم الذين يحبهم الله و يحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله ص و أغراهم بقتله و الفتك به و هم فيروز الديلمي و أصحابه و القصة مشهورة(14/217)


و قد كان له أيضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا و لم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة فسقط عنا وجوب الزكاة ليس هذا من الردة في شي ء و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز إعظاما لما قالوه و تأولوه. فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر و صحابه لمسيلمة و طليحة اللذين ادعيا النبوة و ارتد بطريقهما كثير من العرب لا على قتال مانعي الزكاة قيل إن مسيلمة و طليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته بالكتب و الرسل و أنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين و أمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك و استنفر عليهما قبائل من العرب و كل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة و التواريخ فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية و لم يقل في الآية يجاهدون(14/218)


شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 188فيقتلون و إنما ذكر الجهاد فقط و قد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا و إن لم يبلغوا الغرض كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف و إن لم يبلغ فيه الغرض. و قد كان له أيضا أن يقول سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها من أنه ميرتدد عن الدين فإن الله يأتي بقوم يحبهم و يحبونه يحاربونه لأجل ردته و إنما الذي يدل عليه سياق الآية أنه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله ص و سماه ارتدادا على سبيل المجاز فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم و كذلك كان كل من خذل النبي ص و قعد عن النهوض معه في حروبه أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين جاهدوا بين يديه. و أما قول المرتضى رحمه الله إنها أنزلت في الناكثين و القاسطين و المارقين الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا و لا عند المرتضى و أصحابه أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم كفارا و أما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد و كان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها و معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع كانوا قد ولدوا في الإسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام. و قوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى و لكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة و إنما أطلقها على المجاهدين و هم الذين يباشرون الحرب فهب أن أبا بكر و عمر ما كانا بهذه الصفات لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين و باشر الحرب و هم شجعان المهاجرين و الأنصار الذين فتحوا الفتوح و نشروا الدعوة و ملكوا الأقاليم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 189و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر و أد هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ(14/219)


الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ و قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة و لم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار إلا أبو بكر و عمر و عثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فقال بعضهم عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة و قال بعضهم عنى فارس و الروم و أبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة و قتال آل فارس و الروم و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر فإذا كان الله تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجرا حسنا و إن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما صح أنهما على حق و أن طاعتهما طاعة لله تعالى و هذا يوجب صحة إمامتهما.(14/220)

107 / 147
ع
En
A+
A-