قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش و كان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه و بقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 16فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ(14/196)
بلدة وخمة و وخيمة بينة الوخامة أي وبيئة. مصيدة إبليس بسكون الصاد و فتح الياء آلته التي يصطاد بها. و تساور قلوب الرجال تواثبها و سار إليه يسور أي وثب و المصدر السور و مصدر تساور المساورة و يقال إن لغضبه سورة و هو سوار أي وثاب معربد. شرح نهج البلاغة ج : 13 : 164و سورة الشراب وثوبه في الرأس و كذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع. و ما تكدي ما ترد عن تأثيرها من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية و هي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر. و لا تشوي أحدا لا تخطئ المقتل و تصيب غيره و هو الشوى و الشوى الأطراف كاليد و الرجل. قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه و لا عن فقير لطمره و الطمر الثوب الخلق. و ما في قوله و عن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة أي عن هذه المكايد التي هي البغي و الظلم و الكبر حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس و قال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك و قال أيضا يجوز أن تكون نافية أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء و قهرا بل فعلوه اختيارا من أنفسهم و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه و أيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلق لام الجر بمحذوف فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب و هذا كلام غير مفيد و لا منتظم إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه و الوجه الثاني باطل لأن سياقة الكلام تدل على فساده أ لا ترى قوله تسكينا و تخشيعا و قوله لما في ذلك من كذا و هذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم. ثم بين ع الحكمة في العبادات فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 165التي افترضها عليهم من تلك المكايد و كذلك بالزكاة و الصوم لين أطرافهم و يخشع أبصارهم فجعل التسكين و التخشيع عذرا و علة للحراسة(14/197)
و نصب اللفظات على أنها مفعول له. ثم علل السكون و الخشوع الذي هو علة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب فصار ذلك علة العلة قال و ذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هضم النفس و كسرها و تذليلها. و عتاق الوجوه كرائمها. و إلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين و الساقين تصاغرا يوجب الخشوع و الاستسلام و الجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضي زوال الأشر و البطر و يوجب مذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و ما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر و المسكنة يوجب تطهير النفوس و الأموال و مواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال و عاصم لهم من السرقات و ارتكاب المنكرات ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان. و تخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء و التيه. و الخيلاء التكبر و المسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين. و القمع القهر. و النواجم جمع ناجمة و هي ما يظهر و يطلع من الكبر و غيره. و القدع بالدال المهملة الكف قدعت الفرس و كبحته باللجام أي كففته. و الطوالع كالنواجم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 16وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ(14/198)
الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِ وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ(14/199)
قد روي تحتمل بالتاء و روي تحمل و المعنى واحد. و التمويه التلبيس من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى. و لاط الشي ء بقلبي يلوط و يليط أي التصق. و المترف الذي أطغته النعمة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 167و تفاضلت فيها أي تزايدت. و المجداء جمع ماجد و المجدشرف في الآباء و الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكونا في آبائه هكذا قال ابن السكيت و قد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى قال سبحانه ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ على قراءة من رفع و الله سبحانه يتعالى عن الآباء و قد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. و النجداء الشجعان واحدهم نجيد و أما نجد و نجد بالكسر و الضم فجمعه أنجاد مثل يقظ و أيقاظ. و بيوتات العرب قبائلها و يعاسيب القبائل رؤساؤها و اليعسوب في الأصل ذكر النحل و أميرها. و الرغيبة الخصلة يرغب فيها. و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار. ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد و عددها و ينبغي أن يحمل قوله ع فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة على أنه لا يعرف له سبب مناسب فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا. و قيل إن أصل هذه العصبية و هذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين و كانوا قبائل في الكوفة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة و إثارة الشر فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون يا لتميم شرح نهج البغة ج : 13 ص : 168و يا لربيعة و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف و تثور الفتن و لا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض(14/200)