مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ(11/114)


مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 134همام المذكور في هذه الخطبة هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن مران بن صيفي بن سعد العشيرة. و كان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين ع و أوليائه و كان ناسكاابدا قال له يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى أصير بوصفك إياهم كالناظر إليهم. فتثاقل عن جوابه أي أبطأ. فعزم عليه أي أقسم عليه و تقول لمن يكرر عليك الطلب و السؤال قد عزم علي أي أصر و قطع و كذلك تقول في الأمر تريد فعله و تقطع عليه عزمت عزما و عزمانا و عزيمة و عزيما. فإن قلت كيف جاز له ع أن يتثاقل عن جواب المسترشد. قلت يجوز أن يكون تثاقل عن جوابه لأنه علم أن المصلحة في تأخير الجواب و لعله كان حضر المجلس من لا يحب أن يجيب و هو حاضر فلما انصرف أجاب و لعله رأى أن تثاقله عن الجواب يشد تشوق همام إلى سماعه فيكون أنجع في موعظته و لعله كان من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة و لعله تثاقل عن الجواب ليرتب المعاني التي خطرت له في ألفاظ مناسبة لها ثم ينطق بها كما يفعله المتروي في الخطبة و القريض. فإن قلت فما معنى إجابته له أولا بقوله يا همام اتق الله و أحسن ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ و أي جواب في هذا عن سؤال همام. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 135قلت كأنه لم ير في بادئ الحال شرح صفات المتقين على التفصيل فقال لهمام ماهية التقوى معلومة في الجملة فق الله و أحسن فإن الله قد وعد في كتابه أن يكون وليا و ناصرا لأهل التقوى و الإحسان و هذا كما يقول لك قائل ما صفات الله الذي أعبده أنا و الناس فتقول له لا عليك ألا تعرف صفاته مفصلة بعد أن تعلم أنه خالق العالم و أنه واحد لا شريك له فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على(11/115)


وجه التفصيل قال له إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم و يروى حيث خلقهم و هو غني عن طاعتهم لأنه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به. و قسم بين الخلق معايشهم كما قال سبحانه نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. و في قوله وضعهم مواضعهم معنى قوله وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فكأنه ع أخذ الألفاظ فألغاها و أتى بمعناها. فلما فرغ من هذه المقدمة شرع في ذكر صفات المتقين فقال إنهم أهل الفضائل ثم بين ما هذه الفضائل فقال منطقهم الصواب. فإن قلت أي فائدة في تقديم تلك المقدمة و هي كون البارئ سبحانه غنيا لا تضره المعصية و لا تنفعه الطاعة. قلت لأنه لما تضمنت الخطبة مدح الله تعالى للمتقين و ما أعده لهم من الثواب و ذمه للعاصين و ما أعده لهم من العقاب العظيم فربما يتوهم متوهم أن الله تعالى ما رغب في الطاعة
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 136هذا الترغيب البالغ و خوف من المعصية هذا التخويف البالغ إلا و هو منتفع بالأولى مستضر بالثانية فقدم ع تلك المقدمة نفيا لهذا الوهمفصل في فضل الصمت و الاقتصاد في المنطق
و اعلم أن القول في خطر الكلام و فضل الصمت و فضل الاقتصار في المنطق وسيع جدا و قد ذكرنا منه طرفا فيما تقدم و نذكر الآن منه طرفا آخر.
قال النبي ص من صمت نجا
و قال أيضا الصمت حكم و قليل فاعله
وقال له ص بعض أصحابه أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك فقال قل آمنت بالله ثم استقم قال فما أتقي فأومأ بيده إلى لسانه
وقال له ع عقبة بن عامر يا رسول الله ما النجاة قال املك عليك لسانك و ابك على خطيئتك و ليسعك بيتك
و روى سهل بن سعد الساعدي عنه ص من يتوكل لي بما بين لحييه و رجليه أتوكل له بالجنة
و قال من وقي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه فقد وقي(11/116)


و روى سعيد بن جبير مرفوعا إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تشكو شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 137اللسان تقول أي بني آدم اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججناو قد روي أن عمر رأى أبا بكر و هو يمد لسانه فقال ما تصنع قال هذا الذي أوردني الموارد
إن رسول الله ص قال ليس شي ء في الجسد إلا يشكو إلى الله تعالى اللسان على حدته و سمع ابن مسعود يلبي على الصفا و يقول يا لسان قل خيرا تغنم أو اصمت تسلم من قبل أن تندم فقيل له يا أبا عبد الرحمن أ هذا شي ء سمعته أم تقوله من تلقاء نفسك قال بل سمعت رسول الله ص يقول أكثر خطايا ابن آدم من لسانه
و روى الحسن مرفوعا رحم الله عبدا تكلم فغنم أو سكت فسلم
وقالت التلامذة لعيسى ع دلنا على عمل ندخل به الجنة قال لا تنطقوا أبدا قالوا لا نستطيع ذلك قال فلا تنطقوا إلا بخير
و قال النبي ص إن الله عند لسان كل قائل فاتقى الله امرؤ علم ما يقول
و كان يقول لا شي ء أحق بطول سجن من لسان و كان يقال لسانك سبع إن أطلقته أكلك
في حكمة آل داود حقيق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه حافظا للسانه مقبلا على شانه. و كان يقال من علم أن كلامه من عمله أقل كلامه فيما لا ينفعه. و قال محمد بن واسع حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار و الدرهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 138اجتمع أربعة حاء من الروم و الفرس و الهند و الصين فقال أحدهم أنا أندم على ما قلت و لا أندم على ما لم أقل و قال الآخر إذا تكلمت بالكلمة ملكتني و لم أملكها و إذا لم أتكلم ملكتها و لم تملكني و قال الآخر عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته و إن لم ترجع لم تنفعه و قال الرابع أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
ذكر الآثار الواردة في آفات اللسان
و اعلم أن آفات اللسان كثيرة فمنها الكلام فيما لا يعنيك و هو أهون آفات اللسان و مع ذلك فهو عيب(11/117)


قال النبي ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
و روي أنه ع مر بشهيد يوم أحد فقال أصحابه هنيئا له الجنة قال و ما يدريكم لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه
و قال ابن عباس خمس هي أحسن و أنفع من حمر النعم لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل لا آمن عليه الوزر و لا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأساء و لا تمار حليما و لا سفيها فإن الحليم يقليك و السفيه يؤذيك و اذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به و أعفه عما تحب أن يعفيك عنه و اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالجرائم
و منها فضول الكلام و كثرته و ترك الاقتصار و كان يقال فضول المنطق و زيادته نقص في العقل و هما ضدان متنافيان كلما زاد أحدهما نقص الآخر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 139و قال عبد الله بن مسعود إياكم و فضول الكلام حسب امرئ ما بلغ به حاجته
و كان يقال من كثر كلامه كثر سقطه. و قال الحسن فضول الكلام كفضول المال كلاهما مهلك. و منها الخوض في الباطل و الحديث فيما لا يحل كحديث النساء و مجالس الخمر و مقامات الفساق و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. و منها المراء و الجدال
قال ع دع المراء و إن كنت محقا
و قال مالك بن أنس المراء يقسي القلب و يورث الضغائن
و قال سفيان الثوري لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة و قلت حامضة لسعي بي إلى السلطان. و كان يقال صاف من شئت ثم أغضبه بالجدال و المراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش. و قيل لميمون بن مهران ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى قال لأني لا أشاريه و لا أماريه. و منها التقعر في الكلام بالتشدد و التكلف في الألفاظ
قال النبي ص شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 140أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون المتشدقونو قال ع هلك المتنطعون... ثلاث مرات(11/118)

92 / 151
ع
En
A+
A-