قلت و قد شغف الناس في المواعظ بكلام كاتب محدث يعرف بابن أبي الشخباء شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 127العسقلاني و أنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه هي أحسن ما وجدته له ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل و المولد. أيها الناس فكوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة و خففواهوركم من الآصار المستحقبة و لا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة و لا تميلوا صغواكم إلى زبارج الدنيا المحببة فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة أ ما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة و أنها لأعمار أهلها منتهبة و لما ساءهم منتظرة مرتقبة في هبتها راجعة متعقبة فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة و مغربة و أجروا خيول التفكر مصعدة و مصوبة هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة و ديارا معطشة من أهلها مجدبة أين الأمم السالفة المتشعبة و الجبابرة الماضية المتغلبة و الملوك المعظمة المرجبة أولو الحفدة و الحجبة و الزخارف المعجبة و الجيوش الحرارة اللجبة و الخيام الفضفاضة المطنبة و الجياد الأعوجية المجنبة و المصاعب الشدقمية المصحبة و اللدان المثقفة المدربة و الماذية الحصينة المنتخبة طرقت و الله خيامهم غير منتهبة و أزارتهم من الأسقام سيوفا معطبة و سيرت إليهم الأيام من نوبها كتائب مكتبة فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة و غدت أصوات النادبات عليهم مجلبة و أكلت لحومهم هوام الأرض السغبة ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر و لا معتبة و تجازى كل نفس بما كانت مكتسبة فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة و شقية معذبة في النار مكبكبة. هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب و هي كما تراها ظاهرة التكلف بينة التوليد تخطب على نفسها و إنما ذكرت هذا لأن كثيرا من أرباب الهوى يقولون إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة و ربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن و غيره و هؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح(11/109)
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 128و ركبوا بنيات الطريق ضلالا و قلة معرفة بأساليب الكلام و أنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقولرأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا أو بعضه و الأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين ع و قد نقل المحدثون كلهم أو جلهم و المؤرخون كثيرا منه و ليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك و الثاني يدل على ما قلناه لأن من قد أنس بالكلام و الخطابة و شدا طرفا من علم البيان و صار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك و الفصيح و بين الفصيح و الأفصح و بين الأصيل و المولد و إذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بد أن يفرق بين الكلامين و يميز بين الطريقتين أ لا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر و نقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام و نفسه و طريقته و مذهبه في القريض أ لا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر و كذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه و لا من شعره و كذلك غيرهما من الشعراء و لم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة. و أنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا و نفسا واحدا و أسلوبا واحدا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية و كالقرآن العزيز أوله كأوسطه و أوسطه كآخره و كل سورة منه و كل آية مماثلة في شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 129المأخذ و المذهب و الفن و الطريق و النظم لباقي الآيات و اور و لو كان بعض نهج البلاغة منحولا و بعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير(11/110)
المؤمنين ع. و اعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب و سلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله ص أبدا و ساغ لطاعن أن يطعن و يقول هذا الخبر منحول و هذا الكلام مصنوع و كذلك ما نقل عن أبي بكر و عمر من الكلام و الخطب و المواعظ و الأدب و غير ذلك و كل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي ص و الأئمة الراشدين و الصحابة و التابعين و الشعراء و المترسلين و الخطباء فلناصري أمير المؤمنين ع أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة و غيره و هذا واضح شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 185130- و من كلام له ع قاله للبرج بن مسهر الطائيو قد قال له بحيث يسمعه لا حكم إلا الله و كان من الخوارج
اسْكُتْ قَبَحَكَ اللَّهُ يَا أَثْرَمُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلًا شَخْصُكَ خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ(11/111)
البرج بن مسهر بضم الميم و كسر الهاء بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طي بن داود بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان شاعر مشهور من شعراء الخوارج نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين ع فزجره. و قبحك الله لفظة معناها كسرك يقال قبحت الجوزة أي كسرتها و قيل قبحه نحاه عن الخير و كان البرج ساقط الثنية فأهانه بأن دعاه به كما يهان الأعور بأن يقال له يا أعور. و الضئيل الدقيق الخفي ضؤل الرجل بالضم ضآلة نحف و ضؤل رأيه صغر و رجل متضائل أي شخت و كذلك ضؤلة. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 131و نعر الباطل صاح و المراد أهل الباطل و نعر فلان في الفتنة نهض فيها. و نجم طلع أي طلع بلا شرف و لا شجاعة و لا قدم بل على غفلة كما ينبت قرن الماعز و هذا من باب البديع و هو أن يشبه امر يراد إهانته بالمهين و يشبه الأمر يراد إعظامه بالعظيم و لو كان قد تكلم في شأن ناجم يريد تعظيمه لقال نجم نجوم الكوكب من تحت الغمام نجوم نور الربيع من الأكمام و نحو ذلك(11/112)
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 186132- و من خطبة له عرُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ ع عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَ أَحْسِنْ فَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص ثُمَّ قَالَ ع أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَيْثُ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّذِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 133عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ قُلبُهُمْ(11/113)