عنها. فإن قلت هو سبحانه عالم بما يضيئه البرق و بما لا يضيئه فلما ذا خص بالعالمية ما يتلاشى عنه البرق. قلت لأن علمه بما ليس بمضي ء بالبرق أعجب و أغرب لأن ما يضيئه البرق يمكن أن يعلمه أولوالأبصار الصحيحة فأراد ع أن يشرح من صفاته سبحانه ما هو بخلاف المعتاد بين البشر ليكون إعظام السامعين له سبحانه أتم و أكمل. و العواصف الرياح الشديدة و أضافها إلى الأنواء لأن أكثر ما يكون عصفانها في الأنواء و هي جمع نوء و هو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 88مع الفجر و طلوع رقيبه من المشرق مقابلا له من ساعته و مدة النوء ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما. قال أبو عبيد و لم يسمع في النوء أنه المسقوط إلا في هذا الموضع و كانت العرب تضيف الرياح و الأار و الحر و البرد إلى الساقط منها. و قال الأصمعي بل إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء كذا و كذا و نهى النبي ص عن ذلك و الجمع أنواء و نوءان أيضا مثل بطن و بطنان و عبد و عبدان قال حسان بن ثابت
و يثرب تعلم أنا بها إذا قحط القطر نوءانها
و الانهطال الانصباب و مسقط القطرة من المطر موضع سقوطها و مقرها موضع قرارها و مسحب الذرة الصغيرة من النمل و مجرها موضع سحبها و جرها. و هذا الفصل من فصيح الكلام و نادره و يتضمن من توحيد الله تعالى و تمجيده و الثناء عليه ما يشهد لنفسه(11/74)
وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ وَ لَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَ لَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 89جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا حْسَنَ الْخَالِقِينَ وَ إِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ
ليس يعني بالكائن هاهنا ما يعنيه الحكماء و المتكلمون بل مراده الموجود أي هو الموجود قبل أن يكون الكرسي و العرش و غيرهما و الأوائل يزعمون أن فوق السماوات السبع سماء ثامنة و سماء تاسعة و يقولون إن الثامنة هي الكرسي و إن التاسعة هي العرش. قوله ع لا يدرك بوهم الوهم هاهنا الفكرة و التوهم. و لا يقدر بفهم أي لا تستطيع الأفهام أن تقدره و تحده. و لا يشغله سائل كما يشغل السؤال منا من يسألونه. و لا ينقصه العطاء كما ينقص العطاء خزائن الملوك. و لا يبصر بجارحة و لا يحد بأين و لفظة أين في الأصل مبنية على الفتح فإذا نكرتها صارت اسما متمكنا كما قال الشاعر
ليت شعري و أين مني ليت إن ليتا و إن لوا عناء(11/75)
و إن شئت قلت إنه تكلم بالاصطلاح الحكمي و الأين عندهم حصول الجسم في المكان و هو أحد المقولات العشر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 90قوله ع و لا يوصف بالأزواج أي صفات الأزواج و هي الأصناف قال سبحانه وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. قوله و لا يخلبعلاج أي لا يحتاج في إيجاد المخلوقات إلى معالجة و مزاولة. قوله و كلم موسى تكليما من الألفاظ القرآنية و المراد هاهنا من ذكر المصدر تأكيد الأمر و إزالة لبس عساه يصلح للسامع فيعتقد أنه أراد المجاز و أنه لم يكن كلام على الحقيقة. قوله و أراه من آياته عظيما ليس يريد به الآيات الخارجة عن التكليم كانشقاق البحر و قلب العصا لأنه يكون بإدخال ذلك بين قوله تكليما و قوله بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات مستهجنا و إنما يريد أنه أراد بتكليمه إياه عظيما من آياته و ذلك أنه كان يسمع الصوت من جهاته الست ليس على حد سماع كلام البشر من جهة مخصوصة و له دوي و صلصلة كوقع السلاسل العظيمة على الحصى الأصم. فإن قلت أ تقول إن الكلام حل أجساما مختلفة من الجهات الست. قلت لا و إنما حل الشجرة فقط و كان يسمع من كل جهة و الدليل على حلوله في الشجرة قوله تعالى فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى فلا يخلو إما أن يكون النداء حل الشجرة أو المنادي حلها و الثاني باطل فثبت الأول. ثم قال ع لمن يتكلف أن يصف ربه إن كنت صادقا أنك قد وصلت إلى شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 91معرفة صفته فصف لنا الملائكة فإن معرفة ذات الملك أهون من معرفة ذات الأول سبحانه. و حجرات القدس جمع حجرة و مرجحنين مائلين إلى جهة تحت خضوعا لجلال البارئ سبحانه ارجحن الحجر إذا مال هاويا متولهة عقولهم أي حائرة ثم قال إنما يدرك لصفات و يعرف كنه ما كان ذا هيئة و أداة و جارحة و ما ينقضي و يفنى و يتطرق إليه العدم و واجب(11/76)
الوجود سبحانه بخلاف ذلك. و تحت قوله أضاء بنوره كل ظلام إلى آخر الفصل معنى دقيق و سر خفي و هو أن كل رذيلة في الخلق البشري مع معرفته بالأدلة البرهانية غير مؤثرة و لا قادحة في جلالة المقام الذي قد بلغ إليه و ذلك نحو أن يكون العارف بخيلا أو جبانا أو حريصا أو نحو ذلك و كل فضيلة في الخلق البشري مع الجهل به سبحانه فليست بفضيلة في الحقيقة و لا معتد بها لأن نقيصة الجهل به تكسف تلك الأنوار و تمحق فضلها و ذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جوادا أو شجاعا أو عفيفا أو نحو ذلك و هذا يطابق ما يقوله الأوائل من أن العارف المذنب يشقى بعد الموت قليلا ثم يعود إلى النعيم السرمدي و أن الجاهل ذا العبادة و الإحسان يشقى بعد الموت شقاء مؤبدا و مذهب الخلص من مرجئة الإسلام يناقض هذه اللفظات و يقال إنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله و يمكن تأويلها على مذهب أصحابنا بأن يقال كل ظلام من المعاصي الصغائر فإنه ينجلي بضياء معرفته و طاعته و كل طاعة يفعلها المكلف مع الكفر به سبحانه فإنها غير نافعة و لا موجبة ثوابا و يكون هذا التأويل من باب صرف اللفظ عن عمومه إلى خصوصه(11/77)
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 92أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سِلْماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ نَ دَاوُدَ ع الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنَبَالِ الْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا الْأُلُوفَ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ
الرياش اللباس و أسبغ أوسع و إنما ضرب المثل بسليمان ع لأنه كان ملك الإنس و الجن و لم يحصل لغيره ذلك و من الناس من أنكر هذا لأن اليهود و النصارى يقولون إنه لم يتعد ملكه حدود الشام بل بعض الشام و ينكرون حديث الجن و الطير و الريح و يحملون ما ورد من ذلك على وجوه و تأويلات عقلية معنوية ليس هذا موضع ذكرها. و الزلفة القرب و الطعمة بضم الطاء المأكلة يقال قد جعلت هذه الضيعة طعمة لزيد. و القسي جمع قوس و أصلها قووس على فعول كضرب و ضروب إلا أنهم قدموا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 93اللام فقالوا قسو على فلوع ثم قلبت الواياء و كسروا القاف كما كسروا عين عصي فصارت قسي
نسب العمالقة(11/78)