قوله لله أنتم لله في موضع رفع لأنه خبر عن المبتدإ الذي هو أنتم و مثله لله در فلان و لله بلاد فلان و لله أبوك و اللام هاهنا فيها معنى التعجب و المراد بقوله لله أنتم لله سعيكم أو لله عملكم كما قالوا لله درك أي عملك فحذف المضاف و أقيم الضمير المنفصل المضاف إليه مقامه. فإن قلت أ فجاءت هذه اللام بمعنى التعجب في غير لفظ لله قلت لا كما أن تاء القسم لم تأت إلا في اسم الله تعالى. قوله ع أ ما دين يجمعكم ارتفاع دين على أنه فاعل فعل مقدر له أي أ ما يجمعكم دين يجمعكم اللفظ الثاني مفسر للأول كما قدرناه بعد إذا في قوله سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ و يجوز أن يكون حمية مبتدأ و الخبر محذوف تقديره أ ما لكم حمية و الحمية الأنفة. و شحذت النصل أحددته. فإن قلت كيف قال إن معاوية لم يكن يعطي جنده و إنه هو ع كان يعطيهم و المشهور أن معاوية كان يمد أصحابه بالأموال و الرغائب قلت إن معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة و العطاء و إنما كان يعطي رؤساء القبائل من اليمن و ساكني الشام الأموال الجليلة يستعبدهم بها و يدعو أولئك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 71الرؤساء أتباعهم من العرب فيطيعونهم فمنهم من يطيعهم حمية و منهم من يطيعهم لأياد ووارف من أولئك الرؤساء عندهم و منهم من يطيعهم دينا زعموا للطلب بدم عثمان و لم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوية قليل و لا كثير. و أما أمير المؤمنين ع فإنه كان يقسم بين الرؤساء و الأتباع على وجه العطاء و الرزق و لا يرى لشريف على مشروف فضلا فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممن ينصره و يقوم بأمره و ذلك لأن الرؤساء من أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك أعني المساواة بينهم و بين الأتباع فيخذلونه ع باطنا و إن أظهروا له النصر و إذا أحس أتباعهم بتخاذلهم و تواكلهم تخاذلوا أيضا و تواكلوا أيضا و لم يجد عليه ص ما أعطى الأتباع من الرزق لأن انتصار الأتباع له و قتالهم دونه لا(11/59)
يتصور وقوعه و الرؤساء متخاذلون فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا. فإن قلت فأي فرق بين المعونة و العطاء. قلت المعونة إلى الجند شي ء يسير من المال برسم ترميم أسلحتهم و إصلاح دوابهم و يكون ذلك خارجا عنالعطاء المفروض شهرا فشهرا و العطاء المفروض شهرا فشهرا يكون شيئا له مقدار يصرف في أثمان الأقوات و مئونة العيال و قضاء الديون. و التريكة بيضة النعام تتركها في مجثمها يقول أنتم خلف الإسلام و بقيته كالبيضة التي تتركها النعامة. فإن قلت ما معنى قوله لا يخرج إليكم من أمري رضا فترضونه و لا سخط فتجتمعون عليه قلت معناه أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم بل لا بد لكم من المخالفة و الافتراق عنه شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 72ثم ذكر أن أحب الأشياء إليه أن يلقى الموت و هذه الحال التي ذكرهابو الطيب فقال
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن تكن أمانياتمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا(11/60)
قوله قد دارستكم الكتاب أي درسته عليكم دارست الكتب و تدارستها و أدرستها و درستها بمعنى و هي من الألفاظ القرآنية. و فاتحتكم الحجاج أي حاكمتكم بالمحاجة و المجادلة و قوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي احكم و الفتاح الحاكم. و عرفتكم ما أنكرتم بصرتكم ما عمي عنكم. و سوغتكم ما مججتم يقال مججت الشراب من فمي أي رميت به و شيخ ماج يمج ريقه و لا يستطيع حبسه من كبره و أحمق ماج أي يسيل لعابه يقول ما كانت عقولكم و أذهانكم تنفر عنه من الأمور الدينية أوضحته لكم حتى عرفتموه و اعتقدتموه و انطوت قلوبكم عليه و لم يجزم ع بحصول ذلك لهم لأنه قال لو كان الأعمى يلحظ و النائم يستيقظ أي إني قد فعلت معكم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم و المانع المشار إليه هو الهوى و العصبية و الإصرار على اللجاج و محبة نصرة عقيدة قد سبقت إلى القلب و زرعها التعصب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 73و مشقة مفارقة الأسلاف الذين قد انغرس في النفس تعظيمهم و مالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظن بهم. ثم قال أقرب بقوم أي ما أقربهم من الجهل كما قال تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ أي ما أسمعهم و أبصرهم. فإن قلت قكان يجب أن يقول و أقرب بقوم قائدهم معاوية و مؤدبهم ابن النابغة من الجهل فلا يحول بين النكرة الموصوفة و صفتها بفاصل غريب و لم يقل ذلك بل فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي منهما. قلت قد جاء كثير من ذلك نحو قوله تعالى وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ في قول من لم يجعل مردوا صفة أقيمت مقام الموصوف لأنه يجعل مردوا صفة القوم المحذوفين المقدرين بعد الأعراب و قد حال بين ذلك و بين مردوا قوله وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. و نحوه قوله أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً. فإن قيما(11/61)
حال من الكتاب و قد توسط بين الحال و ذي الحال وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً و الحال كالصفة و لأنهم قد أجازوا مررت برجل أيها الناس طويل و النداء أجنبي على أنا لا نسلم أن قوله من الجهل أجنبي لأنه متعلق بأقرب و الأجنبي ما لا تعلق له بالكلام
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 18274- و من كلام له عوَ قَدْ أَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْلَمُ لَهُ عِلْمَ أَحْوَالِ قَوْمٍ مِنْ جُنْدِ الْكُوفَةِ قَدْ هَمُّوا بِاللِّحَاقِ بِالْخَوَارِجِ وَ كَانُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ ع فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ قَالَ لَهُ أَ أَمِنُوا فَقَطَنُوا أَمْ جَبَنُوا فَظَعَنُوا فَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ ظَعَنُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَ صُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَ مُتَخَلٍّ عَنْهُمْ فَحَسْبُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَ ارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَ الْعَمَى وَ صَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَ جِمَاحِهِمْ فِي التِّيهِ(11/62)
قد ذكرنا قصة هؤلاء القوم فيما تقدم عند شرحنا قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني و قطن الرجل بالمكان يقطن بالضم أقام به و توطنه فهو قاطن و الجمع قطان و قاطنة و قطين أيضا مثل غاز و غزي و عازب للكلأ البعيد و عزيب. و ظعن صار الرجل ظعنا و ظعنا و قرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و أظعنه سيره و انتصب بعدا على المصدر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 75و ثمود إذا أردت القبيلة غير مصروف و إذا أردت الحي أو اسم الأب مصروف و يقال إنه ثمود بن عابر بن آدم بن سام بن نوح قيل سميت ثمود لقلة مائها من الثمد و هو الماء القليل و كانت مساكنهم الر بين الحجاز و الشام إلى وادي القرى. و أشرعت الرمح إلى زيد أي سددته نحوه و شرع الرمح نفسه و صبت السيوف على هاماتهم استعارة من صببت الماء شبه وقع السيوف و سرعة اعتوارها الرءوس بصب الماء. و استفلهم الشيطان وجدهم مفلولين فاستزلهم هكذا فسروه. و يمكن عندي أن يريد أنه وجدهم فلا لا خير فيهم و الفل في الأصل الأرض لا نبات بها لأنها لم تمطر قال حسان يصف العزى
و إن التي بالجذع من بطن نخلة و من دانها فل من الخير معزل
أي خال من الخير. و يروى استفزهم أي استخفهم. و الارتكاس في الضلال الرجوع كأنه جعلهم في ترددهم في طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلص منه. و الجماح في التيه الغلو و الإفراط مستعار من جماح الفرس و هو أن يعتز صاحبه و يغلبه جمح فهو جموح(11/63)