و اعلم أن هذه الغزاة هي غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس و قد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ و قال إن عليا ع هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام و إن عليا ع قال له لا تخرج بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال عمر إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان و انتقض بالناس الشر. قال أبو جعفر و قد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء و هي بيت المقدس رجل اسمه على ثلاثة أحرف فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه فيعلمون أنه ليس بصاحبهم فلما طال عليهم الأمر في حرب الروم استمدوا عمر و قالوا إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية ليوم سماه لهم فلقوه و هو راكب حمارا و كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم خالد بن الوليد على الخيول و عليهم الديباج و الحرير فنزل عمر عن حماره و أخذ الحجارة و رماهم بها و قال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 299تستقبلون في هذا الزي و إنما شبعتم منذ سنتين سرع ما ترت بكم البطنة و تال لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي يلامقه و تحتها السلاح فقال فنعم إذا قال أبو جعفر فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه الصلح فصالحهم و كتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس فقصر فرسه عن المشي فأتي ببرذون فركبه فهزه و هملج تحته فنزل عنه و ضرب وجهه بردائه و قال قبح الله من علمك هذا ردوا على فرسي فركبه و سار حتى انتهى إلى بيت المقدس. قال و لم يركب برذونا قبله و لا بعده و قال أعوذ بالله من الخيلاء. قال أبو جعفر و لقيه معاوية و عليه ثياب ديباج و حوله جماعة من الغلمان و الخول فدنا منه فقبل يده فقال ما هذا يا ابن(9/256)
هند و إنك لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس و تنعم و قد بلغني أن ذوي الحاجات يقفون ببابك فقال يا أمير المؤمنين أما اللباس فأنا ببلاد عدو و نحب أن يرى أثر نعمة الله علينا و أما الحجاب فأنا نخاف من البذلة جرأة الرعية فقال ما سألتك عن شي ء إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب و إن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب. و قد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر قيل لما قدم عمر الشام قدمها و هو راكب حمارا قريبا من الأرض و معه عبد الرحمن ب عوف راكب حمار قريب أيضا فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء فثنى وركه و نزل و سلم بالخلافة فلم يرد عليه. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 300فقال له عبد الرحمن أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين فلو كلمته قال إنك لصاحب الجيش الذي أرى قال نعم قال مع شدة احتجابك و وقوف ذويلحاجات ببابك قال أجل قال لم ويحك قال لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم فإن لم نتخذ العدة و العدد استخف بنا و هجم على عوراتنا و أنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت و إن استزدتني زدت و إن استوقفتني وقفت فقال إن كنت كاذبا إنه لرأي أريب و إن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب ما سألتك عن شي ء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس لا آمرك و لا أنهاك فلما انصرف قال عبد الرحمن لقد أحسن الفتى في إصدار ما أردت عليه فقال لحسن إيراده و إصداره جشمناه ما جشمناه. قال أبو جعفر شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات و دخلها مرة راب فرس و مرة راكب بعير و مرة راكب بغل و مرة راكب حمار و كان لا يعرف و ربما استخبره الواحد أين أمير المؤمنين فيسكت أو يقول سل الناس و كان يدخل الشام و عليه سحق فرو مقلوب و إذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام. قال أبو جعفر و قدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع فصادف الطاعون بها فاشيا فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع و ألا يدخلها إلا أبا عبيدة بن الجراح فإنه قال أ تفر من قدر الله قال(9/257)
نعم أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم
عن النبي ص أنه قال إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها و إذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها
فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة و مات أبو عبيدة في ذلك الطاعون و هو الطاعون المعروف بطاعون عمواس و كان في سنة سبع عشرة من الهجرة
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 135301- و من كلام له ع و قد وقعت بينه و بين عثمان مشاجرةفقال المغيرة بن الأخنس لعثمان أنا أكفيكه فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة
يَا ابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ وَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ أَنْتَ تَكْفِينِي فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ(9/258)
هو المغيرة بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة الثقفي حليف بني زهرة و إنما قال له أمير المؤمنين ع يا ابن اللعين لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم و أعطاه رسول الله ص مائة من الإبل من غنائم حنين يتألف بها قلبه و ابنه أبو الحكم بن الأخنس قتله أمير المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب و هو أخو المغيرة هذا و الحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة و إنما قال له يا ابن الأبتر لأن من كان عقبة ضالا خبيثا فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه و يروى و لا أقام من أنت منهضه بالهمزة. و يروى أبعد الله نوءك من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها و كانوا إذا دعوا على إنسان قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 302و الجهد بالفتح الية و يقال قد جهد فلان جهده بالفتح لا يجوز غير ذلك أي انتهى إلى غايته و قد روي أن رسول الله ص لعن ثقيفا. و
روي أنه ع قال لو لا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا
و روى الحسن البصري أن رسول الله ص لعن ثلاث بيوت بيتان من مكة و هما بنو أمية و بنو المغيرة و بيت من الطائف و هم ثقيف. و
في الخبر المشهور المرفوع و قد ذكر ثقيفا بئست القبيلة يخرج منها كذاب و مبير(9/259)
فكان كما قال ص الكذاب المختار و المبير الحجاج. و اعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان و لكن عوانة روى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عثمان لما كثرت شكايته من علي ع أقبل لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شكا إليه عليا فقال له زيد بن ثابت الأنصاري و كان من شيعته و خاصته أ فلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك قال بلى فأتاه زيد و معه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي و عداده في بني زهرة و أمه عمة عثمان بن عفان في جماعة فدخلوا عليه فحمد زيد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الإسلام و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به فأنت للخير كل الخير أهل و أمير المؤمنين عثمان ابن عمك و والي هذه الأمة فله عليك حقان حق الولاية و حق القرابة و قد شكا إلينا أن عليا يعرض لي و يرد أمري علي و قد مشينا إليك نصيحة لك و كراهية أن يقع بينك و بين ابن عمك أمر نكرهه لكما. قال فحمد علي ع الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض و لا الرد عليه إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلا بالحق و و الله لأكفن عنه ما وسعني الكف. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 303فقال المرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا و كان من شيعة عثمان و خلصائه إنك و الله لتكفن عنه أو لتكفن فإنه أقدر عليك منك عليه و إنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك فقال له علي ع يا ابن اللعين الأبتر و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع أنت تكفني فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره اخرج أبعد الله نواك ثم اجهد جهدك فلا أبقى الله عليك و لا على أصحابك إن أبقيتم. فقال له زيد إنا و الله ما جئناك لنكون عليك شهودا و لا ليكون ممشانا إليك حجة و لكن مشينا فيما بينكما التماس الأجر أن يصلح الله ذات بينكما و يجمع كلمتكما ثم دعا له و لعثمان و قام فقاموا معه. و هذا الخبر(9/260)