أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا. و منها الخلاص من مشاهدة الثقلاء و الحمقى و معاناة أخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر قيل للأعمش بم عمشت عيناك قال بالنظر إلى الثقلاء. و دخل على أبي حنيفة رحمه الله فقال له روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما فما الذي عوضك قال كفاني رؤية ثقيل مثلك يمازحه. و قال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر. و هذه المقاصد و إن كان بعضها دنيويا إلا أنها تضرب في الدين بنصيب و ذلك لأن شرح نهج البغة ج : 10 ص : 52من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه و يثلبه و ذلك فساد في الدين و في العزلة السلامة عن جميع ذلك. و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع تختلف مناهجه فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة و نهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائدا و يجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة و منهم من هو بالضد من ذلك و قد قال الشافعي قريبا من ذلك قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة و الانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض و المنبسط. فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا فهذه آداب نيته ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم و العمل و الذكر و الفكر ليجتني ثمرة العزلة و يجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه و زيارته فيتشوش وقته و أن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم و أحوالهم و عن الإصغاء إلى أراجيف الناس و ما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر و البال وقت الصلاة و وقت الحاجة إلى(11/44)


إحضار القلب فإن وقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض لا بد أن ينبت و تتفرع عروقه و أغصانه و إحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله و لا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس و أصولها. و يجب أن يقنع باليسير من المعيشة و إلا اضطره التوسع إلى الناس و احتاج إلى مخالطتهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 53و ليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران إذ يسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة و قدح فيه بترك المخالطة فإن ذلك لا بد أنؤثر في القلب و لو مدة يسيرة و حال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الآخرة فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد أو ذكر مع حضور قلب و إما بالفكر في جلال الله و صفاته و أفعاله و ملكوت سماواته و إما بالتأمل في دقائق الأعمال و مفسدات القلب و طلب طرق التخلص منها و كل ذلك يستدعي الفراغ و لا ريب أن الإصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب. و يجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة ففي ذلك عون له على بقية الساعات و ليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا و ما الناس منهمكون فيه و لا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل و ألا يقدر لنفسه عمرا طويلا بل يصبح على أنه لا يمسي و يمسي على أنه لا يصبح فيسهل عليه صبر يوم و لا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله و ليكن كثير الذكر للموت و وحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة و ليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله و معرفته ما يأنس به فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت و أن من أنس بذكر الله و معرفته فإن الموت لا يزيل أنسه لأن الموت ليس يهدم محل الأنس و المعرفة بل يبقى حيا بمعرفته و أنسه فرحا بفضل الله عليه قال سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(11/45)


فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. و كل من يجرد نفسه في ذات الله فهو شهيد مهما أدركه الموت فالمجاهد من شرح نهج البلاغة : 10 ص : 54جاهد نفسه و هواه كما صرح به ع و
قال لأصحابه رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
فالجهاد الأصغر محاربة المشركين و الجهاد الأكبر جهاد النفس. و هذا الفصل في العزلة نقلناه على طوله من كلام أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين و هذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 17855- و من كلام له ع في معنى الحكمينفَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ وَ لَا يُجَاوِزَاهُ وَ تَكُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ فَتَاهَا عَنْهُ وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا وَ الِاعْوِجَاجُ دَأْبَهُمَا وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا وَ الثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لِأَنْفُسِنَا حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ(11/46)


الملأ الجماعة و يجعجعا يحبسا نفوسهما و آراءهما عند القرآن جعجعت أي حبست أخذت عليهما العهد و الميثاق أن يعملا بما في القرآن و لا يتجاوزاه. فتاها عنه أي عدلا و تركا الحق على علم منهما به. و الدأب العادة و سوء رأيهما منصوب لأنه مفعول سبق و الفاعل استثناؤنا. ثم قال و الثقة في أيدينا أي نحن على برهان و ثقة من أمرنا و ليس بضائر لنا ما فعلاه لأنهما خالفا الحق و عدلا عن الشرط و عكسا الحكم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 56و روى الثوري عن أبي عبيدة قال أمر بلال بن أبي بردة و كان قاضيا بتفريق بين رجل و امرأته فقال الرجيا آل أبي موسى إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين
كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص و هو على مصر
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص و هو على مصر قد قبضها بالشرط الذي اشترط على معاوية أما بعد فإن سؤال أهل الحجاز و زوار أهل العراق كثروا علي و ليس عندي فضل عن أعطيات الحجاز فأعني بخراج مصر هذه السنة فكتب عمرو إليه
معاوي إن تدركك نفس شحيحة فما مصر إلا كالهباءة في الترب و ما نلتها عفوا و لكن شرطتها و قد دارت الحرب العوان على قطب و لو لا دفاعي الأشعري و رهطه لألفيتها ترغو كراغية السقثم كتب في ظاهر الكتاب و رأيت أنا هذه الأبيات بخط أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي رحمه الله(11/47)


معاوي حظي لا تغفل و عن سنن الحق لا تعدل أ تنسى مخادعتي الأشعري و ما كان في دومة الجندل ألين فيطمع في غرتي و سهمي قد خاض في المقتل فألمظه عسلا باردا و أخبأ من تحته حنظلي و أعليته المنبر المشمخر كرجع الحسام إلى الم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 57فأضحي لصاحبه خالعا كخلع النعال من الأرجل و أثبتها فيك موروثة ثبوت الخواتم في الأنمل وهبت لغيري وزن الجبال و أعطيتني زنة الخردل و إن عليا غدا خصمنا سيحتج بالله و المرسل و ما دم عثمان منج لنا فليس عن الحق منفلما بلغ الجواب إلى معاوية لم يعاوده في شي ء من أمر مصر بعدها. بعث عبد الملك روح بن زنباع و بلال بن أبي بردة بن أبي موسى إلى زفر بن الحارث الكلابي بكلام و حذرهما من كيده و خص بالتحذير روحا فقال يا أمير المؤمنين إن أباه كان المخدوع يوم دومة الجندل لا أبي فلام تخوفني الخداع و الكيد فغضب بلال و ضحك عبد الملك(11/48)

78 / 151
ع
En
A+
A-