قليل الهم لا ولد يموت و ليس بخائف أمرا يفوت قضى وطر الصبا و أفاد علما فغايته التفرد و السكوت شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 41و أكبر همه مما عليه تناجز من ترى خلق و قوقال النخعي لصاحب له تفقه ثم اعتزل. و كان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز و يعود المرضى و يعطي الإخوان حقوقهم ثم ترك واحدا واحدا من ذلك إلى أن ترك الجميع و قال ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له. و قيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى. و قال الفضيل بن عياض إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني ألا يسلم علي و إذا مرضت ألا يعودني. و قال الداراني بينا ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاء حجر فصك وجهه فسجد و جعل يمسح الدم و يقول لقد وعظت يا ربيع ثم قام فدخل الدار فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات. و كان سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد قد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجة لهما و لا لغيرهما حتى ماتا بالعقيق. قال بشر أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل. و أحضر بعض الأمراء حاتما الأصم فكلمه ثم قال له أ لك حاجة قال نعم ألا تراني و لا أراك. و قيل للفضيل إن ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس و لا يرونني فبكى الفضيل و قال يا ويح علي أ لا أتمها فقال و لا أراهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 42و من كلام الفضيل أيضا من سفة عقل الرجل كثرة معارفه. و قد جاء في الأحاديث المرفوعة ذكر العزلة و فضلها
نحو قوله ع لعبد الله بن عامر الجهني لما سأله عن طريق النجاة فقال له ليسعك بيتك أمسك عليك دينك و ابك على خطيئتك
و قيل له ص أي الناس أفضل فقال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه و يدع الناس من شره
و قال ع إن الله يحب التقي النقي الخفي
ذكر فوائد العزلة(11/34)


و في العزلة فوائد منها الفراغ للعبادة و الذكر و الاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا و الآخرة و ملكوت السماوات و الأرض لأن ذلك لا يمكن إلا بفراغ و لا فراغ مع المخالطة و لذلك كان رسول الله ص في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء و يعتزل فيه حتى أتته النبوة. و قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة و العزلة فقال دوام الفكر و ثبات العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة و يموتوا موتا طيبا. و قيل لبعضهم ما أصبرك على الوحدة فقال لست وحدي أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه و إذا شئت أن أناجيه صليت. و قال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت له يا إبراهيم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 43تركت خراسان فقال ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني قال موسوس أو حمال. و قيل للحسن يا أبا يد هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن و أشاروا إليه فمضى نحوه و قال له يا عبد الله لقد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس قال أمر شغلني عنهم قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه قال أمر شغلني عن الناس و عن الحسن قال و ما ذلك الشغل يرحمك الله قال إني أمسي و أصبح بين نعمة و ذنب فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه و الاستغفار من الذنب فقال الحسن أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن فالزم ما أنت عليه. و جاء هرم بن حيان إلى أويس فقال له ما حاجتك قال جئت لآنس بك قال ما كنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره. و قال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به و قلت أخلو بربي و إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس و أن يجي ء إلي من يشغلني عن ربي. و قال مالك بن دينار منلم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه و عمي قلبه و(11/35)


ضاع عمره. و قال بعض الصالحين بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة و تستر بها فقلت سبحان الله أ تبخل علي بالنظر إليك فقال يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا و أهلها فطال في ذلك تعبي و فني عمري ثم سألت الله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 44ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط فسكنه الله عن الاضطراب و آلفه الوحدة و الانفراد فلما نظرت إليك و يدني خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى ألف المخلوقين فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين و حبيب التائبين ثم صاح وا غماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يده و قال إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني و أهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة و حلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان و الحور الحسان فإني في الخلوة آنس بذكر الله و أستلذ بالانقطاع إلى الله ثم أنشد
و إني لأستغشي و ما بي نعسة لعل خيالا منك يلقى خيالياو أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا(11/36)


و قال بعض العلماء إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس و يطرد الوحشة عن نفسه بهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة و كان يقال الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس. و منها التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة و هي الغيبة و الرياء و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة و الأعمال الخبيثة من الغير. أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه و التنقل بلذة س شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 45ذلك فهي أنسهم الذي يستريحون إليه في الجلوة و المفاوضة فإن خالطتهم و وافقت أثمت و إن سكت كنت شريكا فالمستمع أحد المغتابين و إن أنكرت تركوا ذلك المغتاب و اغتابوك فازدادوا إثما على إثمهم. فأما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ن من خالط الناس لا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله و إن أنكر تعرض بأنواع من الضرر و في العزلة خلاص عن ذلك و في الأمر بالمعروف إثارة للخصام و تحريك لكوامن ما في الصدور و قال الشاعر
و كم سقت في آثاركم من نصيحة و قد يستفيد الظنة المتنصح(11/37)


و من تجرد للأمر بالمعروف ندم عليه في الأكثر كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه وحده فيوشك أن يقع عليه فإذا سقط قال يا ليتني تركته مائلا نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط و يدعمه استقام و لكنك لا تجد القوم أعوانا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فدع الناس و انج بنفسك. و أما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم و من داراهم راءاهم و من راءاهم كان منافقا و أنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين و لم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا و إن جاملتهما كنت من شرار الناس و صرت ذا وجهين و أقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق و المبالغة فيه و ليس يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل و إما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال فقولك كيف أنت و كيف أهلك و أنت في الباطن فارغ القلب عن همومه نفاق محض. قال السري السقطي لو دخل علي أخ فسويت لحيتي بيدي لدخوله خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 46كان الفضيل جالسا وحده في المسجد فجاء إليه أخ له فقال ما جاء بك قال المؤانسة قال هي و الله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي و أتزين لك و تكذب لي و أكذب لك إما أن تقوم عني و إما أن أقوم ع. و قال بعض العلماء ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه. و دخل طاوس على هشام بن عبد الملك فقال كيف أنت يا هشام فغضب و قال لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين قال لأن جميع الناس ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذبا. فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس و إلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم و لا نجاة من ذلك إلا بالعزلة. و أما سرقة الطبع من الغير فالتجربة تشهد بذلك لأن من خالط الأشرار اكتسب من شرهم و كلما طالت صحبة الإنسان لأصحاب الكبائر هانت الكبائر عنده و في المثل فإن القرين بالمقارن يقتدي. و منها الخلاص من الفتن و الحروب بين الملوك و الأمراء(11/38)

76 / 151
ع
En
A+
A-