و إني و إن قدمت قبلي لعالم بأني و إن أبطأت عنك قريب و إن صباحا نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة حبيبو قال بعض السلف ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 292فالله تعالى يقول وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا و إن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما مْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. و قال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي و يكثر من تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ و قالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت. و قال بعضهم الصالح إذا مات استراح و الطالح إذا مات استريح منه. و قال الشاعر
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه أبر بنا من كل بر و أرأف يعجل تخليص النفوس من الأذى و يدني من الدار التي هي أشرفو قال آخر
من كان يرجو أن يعيش فإنني أصبحت أرجو أن أموت لأعتقافي الموت ألف فضيلة لو أنها عرفت لكان سبيله أن يعشقا
و قال أبو العلاء
جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا شرا إلي فجل الواحد الصمد
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 293فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و تلك تزعم أن الظالم الجسدإذا هما بعد طول الصحبة افترقا فإن ذاك لأحداث الزمان يو قال أبو العتاهية(9/251)
المرء يأمل أن يعيش و طول عمر قد يضره تفنى بشاشته و يبقى بعد حلو العيش مره و تخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره كم شامت بي أن هلكت و قائل لله دو قال ابن المعتز
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فذما له لكن للخالق الشكرالقد حبب الموت البقاء الذي أرى فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا
فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله و هو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به و الانتفاع بمواعظه و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب و نور الأبصار و سمع الآذان الصم و ري الأكباد الحري و فيها الغنى كله و السلامة و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 294لُقْمانَ الْحِكْمَةَ في قوله وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان و كيفية إنشاء النبات و المعادن و ما في العالم من القوى المختلفة و التأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه تبارك اسمه. فأما قوله و كتاب الله إلى قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله ففصل آخر مقطوع عما قبله و متصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة فإن قلت ما معنى قوله و لا يختلف في الله و لا يخالف بصاحبه عن الله و هل بين هاتين الجملتين فرق قلت نعم أما قوله و لا يختلف في الله فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله و صفاته أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا و تدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات أو يدل بعضها على أنه لا يرى و بعضها على أنه يرى و ليس(9/252)
وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول لأن آيات الجبر و التشبيه لا تدل و إنما توهم و نحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشي ء و نقيضه. و أما قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عله إلى غير الله أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه و لا يعرج به إلى جناب الشيطان يقال خالفت بفلان عن فلان إذا أخذت به غير نحوه و سلكت به غير جهته. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 295فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل فكلام مقطوع أيضا عما قبله و الغل حقد. و الدمن جمع دمنة و هي الحقد أيضا و قد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت و نبت المرعى عليها أي دامت و طال الزمان عليها حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات و يجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن و هو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة و هي آثار الناس و ما سودوا من الأرض يقال قد دمن الشاء الماء و قد دمن القوم الأرض فشبه ما في قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر و غيره من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى قال الشاعر
و قد ينبت المرعى على دمن الثرى و تبقى حزازات النفوس كما هيا(9/253)
قوله ع لقد استهام بكم الخبيث يعني الشيطان و استهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم فعداه بحرف الجر كما تقول في استنفرت القوم إلى الحرب استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين و يمكن أن يكون بمعنى الطلب و الاستدعاء كقولك استعلمت منه حال كذا أي استدعيت أن يعلمني و استمنحت فلانا أي طلبت و استدعيت أن يعطيني فيكون قوله و استهام بكم الخبيث أي استدعى منكم أن تهيموا و تقعوا في التيه و الضلال و الحيرة. قوله و تاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا قال سبحانه وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ و تاه بكم جعلكم تائهين حائرين ثم سأل الله أن يعينه على نفسه و عليهم و من كلام بعض الصالحين اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا و أدناهم مني جوارا و هي نفسي
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 134296- و من كلام له ع و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروموَ قَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَ الَّذِي نَصَرَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لَا يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَ النَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ(9/254)
توكل لهم صار وكيلا و يروى و قد تكفل أي صار كفيلا. و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته و يقول إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضعفهم هو الله تعالى و هو حي لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا و قوله فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر. و كهف أي و كهف يلجأ إليه و يروى كانفة أي جهة عاصمة من قولك كنفت الإبل جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به و تعتصم. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 297و رجل محرب أي صاحب حروب. و حفزت الرجل أحفزه دفعته من خلفه و سقته سوقا شديدا. و كنت ردءا أي عونا قال سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْء يُصَدِّقُنِي. و مثابة أي مرجعا و منه قوله تعالى مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً أشار ع ألا يشخص بنفسه حذرا أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس بل يبعث أميرا من جانبه على الناس و يقيم هو بالمدينة فإن هزموا كان مرجعهم إليه. فإن قلت فما بال رسول الله ص كان يشاهد الحروب بنفسه و يباشرها بشخصه قلت إن رسول الله ص كان موعودا بالنصر و آمنا على نفسه بالوعد الإلهي في قوله سبحانه وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و ليس عمر كذلك. فإن قلت فما بال أمير المؤمنين ع شهد حرب الجمل و صفين و النهروان بنفسه فهلا بعث أميرا محربا و أقام بالمدينة ردءا و مثابة. قلت عن هذا جوابان أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي ص أنه لا يقتل في هذه الحروب و يشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة يقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و ثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه و لم يجد أميرا محربا من أهل البلاء و النصيحة لأنه ع هكذا قال لعمر و اعتبر هذه القيود و الشروط فمن كان من شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 298أصحابه ع محربا لم يكن من أهل النصيحة له و من كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته ارورة إلى مباشرة الحرب بنفسه
غزوة فلسطين و فتح بيت المقدس(9/255)