نسيم الروض في ريح شمال و صوب المزن في راح شمول
و كقوله أيضا
جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه ضبابة نقع تحتها الموت ناقع
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 284و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه و هو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه الأصلية و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم و ليس بقمر و المار تختلف بحرف واحد و كذلك عمارة و الأعمار و كذلك العوالي و المعالي و أما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فخارج عن هذا بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري
و لم يكن المعتز بالله إذ سرى ليعجز و المعتز بالله طالبه
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري
قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا فمالك موتور و سيفك واتر
و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر و يرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل و ليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب و مضروب لكان قد جانس. و منها القسم المكنى بالمعكوس و هو على ضربين عكس لفظ و عكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم. و من ذلك قول الأضبط بن قريع
قد يجمع المال غير آكله و يأكل المال غير من جمعه
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 285و يقطع الثوب غير لابسه و يلبس الثوب غير من قطعو مثله قول المتنبي
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله و لا مال في الدنيا لمن قل مجده
و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان
أسف بمن يطير إلى المعالي و طار بمن يسف إلى الدنايا
و مثله قول آخر(9/246)
إن الليالي للأنام مناهل تطوى و تنشر بينها الأعمارفقصارهن مع الهموم طويلة و طوالهن مع السرور قصار
و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه
غيرتنا يد الزمان فقد شبت و التحى فاستحال الضحى دجى و استحال الدجى ضحىو يسمى هذا الضرب التبديل و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك. و مثله
قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار
قالوا و منه قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة و مثلوه أيضا
بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه
و بقول أبي تمام لأبي العميثل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 286و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال. و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف و هو كقول بعضهم قد أهدى لصديق له كرسيا
أهديت شيئا يقل لو لا أحدوثة الفأل و التبرك كرسي تفاءلت فيه لما رأيت مقلوبه يسركو كقول الآخر
كيف السرور بإقبال و آخره إذا تأملته مقلوب إقبال
أي لا بقاء و كقول الآخر
جاذبتها و الريح تجذب عقربا من فوق خد مثل قلب العقرب و طفقت الثم ثغرها فتمنعت و تحجبت عني بقلب العقربيريد برقعا و منها النوع المسمى المجنب و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم
أبا الفياض لا تحسب بأني لفقري من حلى الأشعار عارفلي طبع كسلسال معين زلال من ذرا الأحجار جار
و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيس و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 28بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك و الريب(9/247)
و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو
ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق
و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما و بينت أن كثيرا منها يتداخل و يقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك
مِنْهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ و بَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَ السَّلَامَةُ كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ وَ لَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الآْمَالِ وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ َ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 288هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع و إن كان كل كلامه فصيحا و لكن كل واحد له هوى و محبة لشي ء مخصوص و ضروب الناس عشاق ضروبا. أما قوله شي ء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا قال أبو الطيب و لذيذ الحياة أنفس في النفس و أشهى من أن يمل و أحلى و إذا الشيخ قال أف فما مل حياة و لكن الضعف ملاو قال أيضا(9/248)
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبافحب الجبان النفس أورده البقا و حب الشجاع النفس أورده الحربا
و قال أبو العلاء
فما رغبت في الموت كدر مسيرها إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن يصادفن صقرا كل يوم و ليلة و يلقين شرا من مخالبه الحجن و لا قلقات الليل باتت كأنها من الأين و الإدلاج بعض القنا اللد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 289ضربن مليعا بالسنابك أربعا إلى الماء لا يقدرن منه على معن و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله و كلف نوحا و ابنه عمل السفن و ما استعذبته روح موسى و آدم و قد وعدا من بعده جنتي و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب
عذرتكما إن الحمام لمبغض و إن بقاء النفس للنفس محبوب و يكره طعم الموت و الموت طالب فكيف يلذ الموت و الموت مطلوبو قال أبو الطيب أيضا
طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس أن الحمام مر المذاق و الأسى قبل فرقة الروح عجز و الأسى لا يكون بعد الفراقالبحتري
ما أطيب الأيام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لم ترجعو قال آخر
أوفى يصفق بالجناح مغلسا و يصيح من طرب إلى الندمان يا طيب لذة هذه الدنيا لنا لو أنها بقيت على الإنسانو قال آخر
أرى الناس يهوون البقاء سفاهة و ذلك شي ء ما إليه سبيل و من يأمن الأيام أما بلاؤها فجم و أما خيرها فقلي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 290و قال محمد بن وهيب الحميريو نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و ما كنت منه فهو شي ء محببو هذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه
و قال آخر
يا موت ما أفجاك من نازل تنزل بالمرء على رغمه تستلب العذراء من خدرها و تأخذ الواحد من أمهأبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتمم وصلاكل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها نخلى شيم الغانيات فيها فلا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لافإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة و أين هذا من(9/249)
قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
و من قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت
و ما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و
رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له
و كذلك قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت
تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت و هي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه و بين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 291فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لسه و لا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه و إنما الحكم للأعم الأغلب و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت و إنما يتخلص به من الألم و
أمير المؤمنين قال ما من شي ء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه. فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت فهل قيل في عكس ذلك و نقيضه شي ء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا إن يكن أمانياتمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
و قال آخر
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه و فراق كل معاشر لا ينصفو قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه. إبراهيم بن مهدي(9/250)