العجب أي يستنفده و يفن يقول قد صار العجب لا عجب لأن هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب و هذا من باب الإغراق و المبالغة في المبالغة كما قال أبو الطيب
أسفي على أسفي الذي دلهتني عن علمه فبه علي خفاءو شكيتي فقد السقام لأنه قد كان لما كان لي أعضاء
و قال ابن هاني المغربي
قد سرت في الميدان يوم طرادهم فعجبت حتى كدت ألا أعجبا
و الأود العوج. ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه يعني ما تقدم من منابذة طلحة و الزبير و أصحابهما له و ما شفع ذلك من معاوية و عمرو و شيعتهما و فوار الينبوع ثقب البئر. قوله و جدحوا بيني و بينهم شربا أي خلطوه و مزجوه و أفسدوه. و الوبي ء ذو الوباء و المرض و هذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم قد أفسدها القوم و جعلوها مظنة الوباء و السقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد و يوبئ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 248ثم قال فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابت الصابرين و المجاهدين و حصل لي التمكن من الأمر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل كاللبن المحض الذي لا يخالطه شي ء من الماء و إن تكن الأخرى أي و إن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة و مت أو قتلت و الأمور على ما هي عليه من الفتنة و دولة الضلال فَلا تَذْهبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ و الآية من القرآن العزيز. و سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام و كان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له من يعني ع بقوله كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى فقال يوم السقيفة فقلت إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ص و دفع النص فقال و(10/223)


أنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول ص إلى إهمال أمر الإمامة و أن يترك الناس فوضى سدى مهملين و قد كان لا يغيب عن المدينة إلا و يؤمر عليها أميرا و هو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر و هو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث. ثم قال ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله ص كان عاقلا كامل العقل أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم و أما اليهود و النصارى و الفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي أقام ملة و شرع شريعة فاستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره و هذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب و غرائزهم و طلبها بالثارات و الذحول و لو بعد الأزمان المتطاولة و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 249فلا يزال أهل ذلك المقتول و أقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه و أهله فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلالقبيلة به و إن لم يكونوا رهطه الأدنين و الإسلام لم يحل طبائعهم و لا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم و الغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب و على الخصوص قريشا و ساعده على سفك الدماء و إزهاق الأنفس و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى و صهره و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس و يتركه بعده و عنده ابنته و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما و محبة لهما و يعدل عنه في الأمر بعده و لا ينص عليه و لا يستخلفه فيحقن دمه و دم بنيه و أهله باستخلافه أ لا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية فقد عرض دماءهم للإراقة بعده بل يكون هو ع هو الذي قتله و أشاط بدمائهم لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم و إنما يكونون مضغة للأكل و فريسة للمفترس يتخطفهم الناس و تبلغ فيهم الأغراض فأما إذا جعل السلطان فيهم و الأمر إليهم فإنه يكون قد عصمهم و حقن دماءهم(10/224)


بالرئاسة التي يصولون بها و يرتدع الناس عنهم لأجلها و مثل هذا معلوم بالتجربة أ لا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس و وترهم و أبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم و واحدا منهم و جعل بنيه سوقة كبعض العامة لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم و لوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد و الترات من كل جهة يقتلونهم و يشردونهم كل مشرد و لو أنه عين ولدا من أولاده للملك و قام خواصه و خدمه و خوله بأمره بعده لحقنت دماء أهل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 250بيته و لم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك و أبهة السلطنة و قوة الرئاسة و حرمة الإمارة. أ فترى ذهب عن رسول الله ص هذا المعنى أم أحب أن يستأصل أهله و ذريته من بعده و أين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلب أ تقول إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس و أن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي و أنس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده فلا يستطيع الامتناع و على رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه و يودون أن يشربوا دمه بأفواههم و يأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم و إخوانهم و آباءهم و أعمامهم و العهد لم يطل و القروح لم تتقرف و الجروح لم تندمل. فقلت له لقد أحسنت فيما قلت إلا أن لفظه ع يدل على أنه لم يكن نص عليه أ لا تراه يقول و نحن الأعلون نسبا و الأشدون بالرسول نوطا فجعل الاحتجاج بالنسب و شدة القرب فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك و أنا المنصوص علي المخطوب باسمي. فقال رحمه الله إنما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل أ لا ترى أنه سأله فقال كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به فهو إنما سأل عن دفعهم عنه و هم أحق به من جهة اللحمة و العترة و لم يكن الأسدي يتصور(10/225)


النص و لا يعتقده و لا يخطر بباله لأنه لو كان هذا في نفسه لقال له لم دفعك الناس عن هذا المقام و قد نص عليك رسول الله ص و لم يقل له هذا و إنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 251كيف دفعكم قومكم عن هذا و أنتم أحق به أي باعتبار الهاشمية و القربى فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه تمهيدا للجواب فقال إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله ص من غيرنا لأنهم استأثروا علينا و لو قال له أ المنصوص علي و المخطوب باسمي في حياة رسول الله ص لما كان قد أجابه لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا و لا هل نص رسول الله ص بالخلافة على أحد أم لا و إنما قال لم دفعكم قومكم عن الأمر و أنتم أقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم فأجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلائمه أيضا فلو أخذ يصرح له بالنص و يعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه و اتهمه و لم يقبل قوله و لم ينجذب إلى تصديقه فكان أولى الأمور في حكم السياسة و تدبير الناس أن يجيب بما لا نفرة منه و لا مطعن عليه فيه(10/226)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 164252- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْعِبَادِ وَ سَاطِحِ الْمِهَادِ وَ مُسِيلِ الْوِهَادِ وَ مُخْصِبِ النِّجَادِ لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَ لَا لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَ لَمْ يَزَلْ وَ الْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ وَ وَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ حَدَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا لَا تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَ الْحَرَكَاتِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَدَوَاتِ لَا يُقَالُ لَهُ مَتَى وَ لَا يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِ حَتَّى الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ مِمَّ وَ الْبَاطِنُ لَا يُقَالُ فِيمَ لَا شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَ لَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ وَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ وَ لَا كُرُورُ لَفْظَةٍ وَ لَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ وَ لَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ وَ لَا غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ وَ تَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِي الْأُفُولِ وَ الْكُرُورِ وَ تَقْلِيبِ الْأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وَ إِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةِ وَ كُلِّ إِحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ وَ نِهَايَاتِ الْأَقْطَارِ وَ تَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ وَ تَمَكُّنِ الْأَمَاكِنِ فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ وَ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ وَ لَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 253حَدَّهُ وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ ورَتَهُ لَيْسَ(10/227)

54 / 151
ع
En
A+
A-