يجوز بزعمه بالضم و بزعمه بالفتح و بزعمه بالكسر ثلاث لغات أي بقوله فأما من زعمت أي كفلت فالمصدر الزعم بالفتح و الزعامة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 227ثم أقسم على كذب هذا الزاعم فقال و العظيم و لم يقل و الله العظيم تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه لأن الموصوف إذا قي و ترك و اعتمد على الصفة حتى صارت كالاسم كان أدل على تحقق مفهوم الصفة كالحارث و العباس. ثم بين مستند هذا التكذيب فقال ما بال هذا الزاعم أنه يرجو ربه و لا يظهر رجاؤه في عمله فإنا نرى من يرجو واحدا من البشر يلازم بابه و يواظب على خدمته و يتحبب إليه و يتقرب إلى قلبه بأنواع الوسائل و القرب ليظفر بمراده منه و يتحقق رجاؤه فيه و هذا الإنسان الذي يزعم أنه يرجو الله تعالى لا يظهر من أعماله الدينية ما يدل على صدق دعواه و مراده ع هاهنا ليس شخصا بعينه بل كل إنسان هذه صفته فالخطاب له و الحديث معه. ثم قال كل رجاء إلا رجاء الله فهو مدخول أي معيب و الدخل بالتسكين العيب و الريبة و من كلامهم ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل و جاء الدخل بالتحريك أيضا يقال هذا الأمر فيه دخل و دغل بمعنى قوله تعالى وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي مكرا و خديعة و هو من هذا الباب أيضا. ثم قال و كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول محقق أي ثابت أي كل خوف حاصل حقيقة فإنه مع هذا الحصول و التحقق معلول ليس بالخوف الصريح إلا خوف الله وحده و تقواه و هيبته و سطوته و سخطه ذلك لأن الأمر الذي يخاف من العبد سريع الانقضاء و الزوال و الأمر الذي يخاف من الباري تعالى لا غاية له و لا انقضاء لمحذوره كما قيل
في الحديث المرفوع فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة(10/203)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 228ثم عاد إلى الرجاء فقال يرجو هذا الإنسان الله في الكثير أي يرجو رحمته في الآخرة و لا يتعلق رجاؤه بالله تعالى إلا في هذا الموضع فأما ما عدا ذلك من أمور الدنيا كالمكاسب و الأموال و الجاه و السلطان و اندفاع المضار و التوصل إلى اغراض بالشفاعات و التوسلات فإنه لا يخطر له الله تعالى ببال بل يعتمد في ذلك على السفراء و الوسطاء و يرجو حصول هذه المنافع و دفع هذه المضار من أبناء نوعه من البشر فقد أعطى العباد من رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه فهو مخطئ لأنه إما ألا يكون هو في نفسه صالحا لأن يرجوه سبحانه و إما ألا يكون البارئ تعالى في نفسه صالحا لأن يرجى فإن كان الثاني فهو كفر صراح و إن كان الأول فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدا لفعل الصالحات لأن يصلح لرجاء البارئ سبحانه. ثم انتقل ع إلى الخوف فقال و كذلك إن خاف هذا الإنسان عبدا مثله خافه أكثر من خوفه البارئ سبحانه لأن كثيرا من الناس يخافون السلطان و سطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة البارئ سبحانه و هذا مشاهد و معلوم من الناس فخوف بعضهم من بعض كالنقد المعجل و خوفهم من خالقهم ضمار و وعد و الضمار ما لا يرجى من الوعود و الديون قال الراعي
حمدن مزاره و أصبن منه عطاء لم يكن عدة ضمارا(10/204)


ثم قال و كذلك من عظمت الدنيا في عينه يختارها على الله و يستعبده حبها و يقال كبر بالضم يكبر أي عظم فهو كبير و كبار بالتخفيف فإذا أفرط قيل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 229كبار بالتشديد فأما كبر بالكسر فمعناه أسن و المصدر منهما كبرا بفتح الباءوَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ص كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاوِيهَا إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَ وُطَّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ ص حَيْثُ يَقُولُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ ص صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ع فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ(10/205)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 230يجوز أسوة و إسوة و قرئ التنزيل بهما و المساوئ العيوب ساءه كذا يسوؤه سوءا بالفتح و مساءة و مسائية و سوته سواية و مساية بالتخفيف أي ساءه ما رآه مني و سأل سيبويه الخليل عن سوائية فقال هي فعالية بمنزلة علانية و الذين قالوا سوايةذفوا الهمزة تخفيفا و هي في الأصل قال و سألته عن مسائية فقال هي مقلوبة و أصلها مساوئة فكرهوا الواو مع الهمزة و الذين قالوا مساية حذفوا الهمزة أيضا تخفيفا و من أمثالهم الخيل تجري في مساويها أي أنها و إن كانت بها عيوب و أوصاب فإن كرمها يحملها على الجري. و المخازي جمع مخزاة و هي الأمر يستحى من ذكره لقبحه و أكنافها جوانبها و زوى قبض و زخارف جمع زخرف و هو الذهب
روي عن رسول الله ص أنه قال عرضت علي كنوز الأرض و دفعت إلي مفاتيح خزائنها فكرهتها و اخترت الدار الآخرة(10/206)


و جاء في الأخبار الصحيحة أنه كان يجوع و يشد حجرا على بطنه و أنه ما شبع آل محمد من لحم قط و أن فاطمة و بعلها و بنيها كانوا يأكلون خبز الشعير و أنهم آثروا سائلا بأربعة أقراص منه كانوا أعدوها لفطورهم و باتوا جياعا و قد كان رسول الله ص ملك قطعة واسعة من الدنيا فلم يتدنس منها بقليل و لا كثير و لقد كانت الإبل التي غنمها يوم حنين أكثر من عشرة آلاف بعير فلم يأخذ منها وبرة لنفسه و فرقها كلها على الناس و هكذا كانت شيمته و سيرته في جميع أحواله إلى أن توفي. و الصفاق الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن و شفيفه رقيقه الذي يستشف ما وراءه و بالتفسير الذي فسر ع الآية فسرها المفسرون و قالوا إن شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 231خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال و إنه ما سأل الله إلا أكلة من الخبز و ما في لِما أَنْزَلْتَ بمعنى أي أي إني لأي شي ء أنزلت إلي قليل أو كثيث أو سمين فقير. فإن قلت لم عدى فقيرا باللام و إنما يقال فقير إلى كذا قلت لأنه ضمن معنى سائل و مطالب و من فسر الآية بغير ما ذكره ع لم يحتج إلى الجواب عن هذا السؤال فإن قوما قالوا أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير أي من خير الدين و هو النجاة من الظالمين فإن ذلك رضا بالبدل السني و فرحا به و شكرا له. و تشذب اللحم تفرقه و المزامير جمع مزمار و هو الآلة التي يزمر فيها و يقال زمر يزمر و يزمر بالضم و الكسر فهو زمار و لا يكاد يقال زامر و يقال للمرأة زامرة و لا يقال زمارة فأما الحديث أنه نهى عن كسب الزمارة فقالوا إنها الزانية هاهنا و يقال إن داود أعطي من طيب النغم و لذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه و هو في محرابه و الوحش تسمعه فتدخل بين الناس و لا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته و
قال النبي ص لأبي موسى و قد سمعه يقرأ لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود
و كان أبو موسى شجي الصوت إذا قرأ و(10/207)

50 / 151
ع
En
A+
A-