أنفسهم. قوله فشقوة لازمة مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره فغايتكم أو فجزاؤكم أو فشأنكم و هذا يدل على مذهبنا في الوعيد لأنه قسم الجزاء إلى قسمين إما العذاب أبدا أو النعيم أبدا و في هذا بطلان قول المرجئة إن ناسا يخرجون من النار فيدخلون الجنة لأن هذا لو صح لكان قسما ثالثا. قوله فقد دللتم على الزاد أي الطاعة. و أمرتم بالظعن أي أمرتم بهجر الدنيا و أن تظعنوا عنها بقلوبكم و يجوز الظعن بالتسكين. و حثثتم على المسير لأن الليل و النهار سائقان عنيفان. قوله و إنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير السير هاهنا هو الخروج من الدنيا إلى الآخرة بالموت جعل الناس و مقامهم في الدنيا كركب وقوف لا يدرون متى يقال لهم سيروا فيسيرون لأن الناس لا يعلمون الوقت الذي يموتون فيه فإن قلت كيف سمى الموت و المفارقة سيرا. قلت لأن الأرواح يعرج بها إما إلى عالمها و هم السعداء أو تهوي إلى أسفل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 215السافلين و هم الأشقياء و هذا هو السير الحقيقي لا حركة الرجل بالمشي و من أثبت الأنفس المجردة قال سيرها خلوصها من عالم الحس و اتصالها المعنوي لا الأبدي ارئها فهو سير في المعنى لا في الصورة و من لم يقل بهذا و لا بهذا قال إن الأبدان بعد الموت تأخذ في التحلل و التزايل فيعود كل شي ء منها إلى عنصره فذاك هو السير. و ما في عما قليل زائدة و تبعته إثمه و عقوبته. قوله إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك أي ليس الثوب فيما ينبغي للمرء أن يتركه و لا الشر فيما ينبغي أن يرغب المرء فيه. و تفحص فيه الأعمال تكشف و الزلزال بالفتح اسم للحركة الشديدة و الاضطراب و الزلزال بالكسر المصدر قال تعالى وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. قوله و يشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل يقال في اليوم الشديد إنه ليشيب نواصي الأطفال و قال تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً و ليس(10/193)
ذلك على حقيقته لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير حالهم في الآخرة إلى الشيب و الأصل في هذا أن الهموم و الأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعا قال أبو الطيب
و الهم يخترم الجسيم نحافة و يشيب ناصية الصبي و يهرم
قوله إن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم لأن الأعضاء تنطق في القيامة بأعمال المكلفين و تشهد عليهم. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 216و الرصد جمع راصد كالحرس جمع حارس. قوله و حفاظ صدق يعني الملائكة الكاتبين لا يعتصم منهم بسترة و لا ظلام ليل و من هذا المعنى قول الشاعرإذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت و لكن قل علي رقيب
قوله و إن غدا من اليوم قريب و منه قول القائل
فإن غدا لناظره قريب
منه قوله
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد
و منه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ و الصيحة نفخة الصور. و زاحت الأباطيل بعدت و اضمحلت تلاشت و ذهبت. قوله و استحقت أي حقت و وقعت استفعل بمعنى فعل كقولك استمر على باطله أي مر عليه. و صدرت بكم الأمور مصادرها كل وارد فله صدر عن مورده و صدر الإنسان عن موارد الدنيا الموت ثم البعث
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 159217- و من خطبة له عأَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ انْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ النُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَ لَنْ يَنْطِقَ وَ لَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ(10/194)
الهجعة النومة الخفيفة و قد تستعمل في النوم المستغرق أيضا و المبرم الحبل المفتول و الذي بين يديه التوراة و الإنجيل. فإن قلت التوراة و الإنجيل قبله فكيف جعلهما بين يديه قلت أحد جزأي الصلة محذوف و هو المبتدأ و التقدير بتصديق الذي هو بين يديه و هو ضمير القرآن أي بتصديق الذي القرآن بين يديه و حذف أحد جزأي الصلة هاهنا ثم حذفه في قوله تعالى تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا في قراءة من جعله اسما شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 218مرفوعا و أيضا فإن العرب تستعمل بين يديه بمعنى قبل قال تعالى بَيْنَ يَدَيْ عَذا شَدِيدٍ أي قبله
مِنْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ إِلَّا وَ أَدْخَلَهُ الظُّلْمَةُ تَرْحَةً وَ أَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً فَيَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ وَ لَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ أَصْفَيْتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ وَ أَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ وَ سَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَ مَشْرَباً بِمَشْرَبٍ مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ وَ مَشَارِبِ الصَّبِرِ وَ الْمَقِرِ وَ لِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ وَ دِثَارِ السَّيْفِ وَ إِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَ زَوَامِلُ الآْثَامِ فَأُقْسِمُ ثُمَّ أُقْسِمُ لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ ثُمَّ لَا تَذُوقُهَا وَ لَا تَتَطَعَّمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ(10/195)
الترحة الحزن قال فحينئذ لا يبقى لهم أي يحيق بهم العذاب و يبعث الله عليهم من ينتقم و هذا إخبار عن ملك بني أمية بعده و زوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض. ثم خاطب أولياء هؤلاء الظلمة و من كان يؤثر ملكهم فقال أصفيتم بالأمر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 219غيرهله أصفيت فلانا بكذا خصصته به و صفية المغنم شي ء كان يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة. و أوردتموه غير ورده أنزلتموه عند غير مستحقه ثم قال سيبدل الله مأكلهم اللذيذة الشهية بمأكل مريرة علقمية و المقر المر و مأكلا منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلا و الباء هاهنا لمجازاة الدالة على الصلة كقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و كقول أبي تمام
فبما قد أراه ريان مكسو المعاني من كل حسن و طيب
و قال سبحانه قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ و جعل شعارهم الخوف لأنه باطن في القلوب و دثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن كما أن الشعار ما كان إلى الجسد و الدثار ما كان فوقه. و مطايا الخطيات حوامل الذنوب و زوامل الآثام جمع زاملة و هي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه قال الشاعر
زوامل أشعار و لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر
و تنخمت النخامة إذا تنخعتها و النخامة النخاعة. و الجديدان الليل و النهار و قد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين أن رسول الله ص أخبر أن بني أمية تملك الخلافة بعده مع ذم منه ع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 220لهم نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعا وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فإن المفسرين قالوا إنه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة هذا لفظ رسول الله ص الذي فسر لهم الآية به فساءه ذلك ثم قال الشجرة الملعونة بنو أمية و بنو المغيرة و نحو(10/196)
قوله ص إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا و عباده خولا
و نحو قوله ص في تفسير قوله تعالى لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال ألف شهر يملك فيها بنو أمية
و ورد عنه ص من ذمهم الكثير المشهور نحو
قوله أبغض الأسماء إلى الله الحكم و هشام و الوليد
و في خبر آخر اسمان يبغضهما الله مروان و المغيرة
و نحو قوله إن ربكم يحب و يبغض كما يحب أحدكم و يبغض و إنه يبغض بني أمية و يحب بني عبد المطلب
فإن قلت كيف قال ثم لا تذوقها أبدا و قد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشمية بالمغرب مدة طويلة قلت الاعتبار بملك العراق و الحجاز و ما عداهما من الأقاليم لا اعتداد به
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 160221- و من خطبة له عوَ لَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ وَ أَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ وَ أَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رِبَقِ الذُّلِّ وَ حَلَقِ الضَّيْمِ شُكْراً مِنِّي لِلْبِرِّ الْقَلِيلِ وَ إِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ وَ شَهِدَهُ الْبَدَنُ مِنَ الْمُنْكَرِ الْكَثِيرِ
أحطت بجهدي من ورائكم حميتكم و حضنتكم و الجهد بالضم الطاقة الربق جمع ربقة و هي الحبل يربق به البهم. و حلق الضيم جمع حلقة بالتسكين و يجوز حلق بكسر الحاء و حلاق فإن قلت كيف يجوز له أن يطرق و يغضي عن المنكر. قلت يجوز له ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نهاهم عنه لم يرتدعوا و أضافوا إليه منكرا آخر فحينئذ يخرج الإطراق و الإغضاء عن حد الجواز إلى حد الوجوب لأن النهي عن المنكر يكون و الحالة هذه مفسدة(10/197)