شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 208قوله سيفتنون بعدي بأموالهم من قوله تعالى إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ. قوله و يمنون بدينهم على ربهم من قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُن عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ. قوله و يتمنون رحمته من قوله أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله. قوله و يأمنون سطوته من قوله تعالى أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. و الأهواء الساهية الغافلة و السحت الحرام و يجوز ضم الحاء و قد أسحت الرجل في تجارته إذا اكتسب السحت. و في قوله بل بمنزلة فتنة تصديق لمذهبنا في أهل البغي و أنهم لم يدخلوا في الكفر بالكلية بل هم فساق و الفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين خرج من الإيمان و لم يدخل في الكفر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 158209- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ وَ سَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ وَ دَلِيلًا عَلَى آلَائِهِ وَ عَظَمَتِهِ عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ لَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ وَ لَا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ وَ ارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ وَ النَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ وَ الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ(10/188)
لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَ لَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَلَا وَ بِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا وَ بِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى عِبَادَ اللَّهِ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وَ أَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَنَارَ طُرُقَهُ فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وَ أُمِرْتُمْ بِالظَّعَنِ وَ حُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 210خُلِقَ لِلآْخِرَةِ وَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ وَ بْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَ حِسَابُهُ عِبَادَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ وَ لَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ عِبَادَ اللَّهِ احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَ يَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ وَ تَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ وَ لَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ وَ إِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ وَ يَجِي ءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ وَ مَخَطَّ حُفْرَتِهِ فَيَا لَهُ ِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ وَ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ وَ مَفْرَدِ غُرْبَةٍ وَ كَأَنَّ الصَّيْحَةَ(10/189)
قَدْ أَتَتْكُمْ وَ السَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ وَ بَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الْأَبَاطِيلُ وَ اضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ وَ اسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ وَ صَدَرَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ وَ اعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ وَ انْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ
جعل الحمد مفتاحا لذكره لأن أول الكتاب العزيز الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و القرآن هو الذكر قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 211و سببا للمزيد لأنه تعالى قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزدَنَّكُمْ و الحمد هاهنا هو الشكر و معنى جعله الحمد دليلا على عظمته و آلائه أنه إذا كان سببا للمزيد فقد دل ذلك على عظمة الصانع و آلائه أما دلالته على عظمته فلأنه دال على أن قدرته لا تتناهى أبدا بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة و أما دلالته على آلائه فلأنه لا جود أعظم من جود من يعطي من يحمده لا حمدا متطوعا بل حمدا واجبا عليه. قوله يجري بالباقين كجريه بالماضين من هذا أخذ الشعراء و غيرهم ما نظموه في هذا المعنى قال بعضهم
مات من مات و الثريا الثريا و السماك السماك و النسر نسرو نجوم السماء تضحك منا كيف تبقى من بعدنا و نمر
و قال آخر
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى و لا نحن إلا كالقرون الأوائل
قوله لا يعود ما قد ولى منه كقول الشاعر
ما أحسن الأيام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لم ترجع
قوله و لا يبقى سرمدا ما فيه كلام مطروق المعنى قال عدي(10/190)
ليس شي ء على المنون بباق غير وجه المهيمن الخلاققوله آخر أفعاله كأوله يروى كأولها و من رواه كأوله أعاد الضمير إلى الدهر أي آخر أفعال الدهر كأول الدهر فحذف المضاف. متشابهة أموره لأنه كما كان من قبل يرفع و يضع و يغني و يفقر و يوجد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 212و يعدم فكذلك هو الآن أفعاله متشابهة و روي متبقة أي شي ء منها قبل شي ء كأنها خيل تتسابق في مضمار. متظاهرة أعلامه أي دلالاته على سجيته التي عامل الناس بها قديما و حديثا متظاهرة يقوي بعضها بعضا و هذا الكلام جار منه ع على عادة العرب في ذكر الدهر و إنما الفاعل على الحقيقة رب الدهر. و الشول النوق التي خلبنها و ارتفع ضرعها و أتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية الواحدة شائلة و هي جمع على غير القياس و شولت الناقة أي صارت شائلة فأما الشائل بغير هاء فهي الناقة تشول بذنبها للقاح و لا لبن لها أصلا و الجمع شول مثل راكع و ركع قال أبو النجم
كأن في أذنابهن الشول
و الزاجر الذي يزجر الإبل يسوقها و يقال حدوت إبلي و حدوت بإبلي و الحدو سوقها و الغناء لها و كذلك الحداء و يقال للشمال حدواء لأنها تحدو السحاب أي تسوقه قال العجاج
حدواء جاءت من بلاد الطور
و لا يقال للمذكر أحدى و ربما قيل للحمار إذا قدم أتنه حاد قال ذو الرمة
حادي ثلاث من الحقب السماحيج(10/191)
و المعنى أن سائق الشول يعسف بها و لا يتقي سوقها و لا يدارك كما يسوق العشار. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 213ثم قال ع من شغل نفسه بغير نفسه هلك و ذلك أن من لا يوفي النظر حقه و يميل إلى الأهواء و نصرة الأسلاف و الحجاج عما ربي عليه بين الأهل و الأستاذين الذين عوا في قلبه العقائد يكون قد شغل نفسه بغير نفسه لأنه لم ينظر لها و لا قصد الحق من حيث هو حق و إنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه و يصعب عنده الانتقال منه و يسوؤه أن يرد عليه حجة تبطله فيسهر عينه و يتعب قلبه في تهويس تلك الحجة و القدح فيها بالغث و السمين لا لأنه يقصد الحق بل يقصد نصرة المذهب المعين و تشييد دليله لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها. و الارتباك الاختلاط ربكت الشي ء أربكه ربكا خلطته فارتبك أي اختلط و ارتبك الرجل في الأمر أي نشب فيه و لم يكد يتخلص منه. قوله و مدت به شياطينه في طغيانه مأخو من قوله تعالى وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. و روي و مدت له شياطينه باللام و معناه الإمهال مد له في الغي أي طول له و قال تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. قوله و زينت له سيئ أعماله مأخوذ من قوله تعالى أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً. قوله التقوى دار حصن عزيز معناه دار حصانة عزيزة فأقام الاسم مقام المصدر و كذلك في الفجور. و يحرز من لجأ إليه يحفظ من اعتصم به. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 214و حمة الخطايا سمها و تقطالحمة كما تقول قطعت سريان السم في بدن الملسوع بالبادزهرات و الترياقات فكأنه جعل سم الخطايا ساريا في الأبدان و التقوى تقطع سريانه. قوله و باليقين تدرك الغاية القصوى و ذلك لأن أقصى درجات العرفان الكشف و هو المراد هاهنا بلفظ اليقين. و انتصب الله الله على الإغراء و في متعلقة بالفعل المقدر و تقديره راقبوا و أعز الأنفس عليهم(10/192)