فإن قلت أ يكون في الإيمان كرائم و غير كرائم قلت نعم لأن الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها و نفلها فمن كانت نوافله أكثر كانت كرائم الإيمان عنده أكثر و من قام بالواجبات فقط من غير نوافل كان عنده الإيمان و لم يكن عنده كرائم الإيمان. فإن قلت فعلى هذا تكون النوافل أكرم من الواجبات. قلت هي أكرم منها باعتبار و الواجبات أكرم منها باعتبار آخر أما الأول فلأن صاحبها إذا كان قد قام بالواجبات كان أعلى مرتبة في الجنة ممن اقتصر على الواجبات فقط و أما الثاني فلأن المخل بها لا يعاقب و المخل بالواجبات يعاقب. قوله و هم كنوز الرحمن لأن الكنز مال يدخر لشديدة أو ملمة تلم بالإنسان و كذلك هؤلاء قد ذخروا لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 177ثم قال إن نطقوا صدقوا و إن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عي يوجب كونهم مسبوقين لكنهم ينطقون حكما و يصمتوحلما. ثم أمر ع بالتقوى و العمل الصالح و قال ليصدق رائد أهله الرائد الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى و في أمثالهم الرائد لا يكذب أهله و المعنى أنه ع أمر الإنسان بأن يصدق نفسه و لا يكذبها بالتسويف و التعليل قال الشاعر
أخي إذا خاصمت نفسك فاحتشد لها و إذا حدثت نفسك فاصدق(10/158)
و في المثل المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور. فإنه منها قدم قد قيل إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم و الخبر في ذلك مشهور و الآية أيضا و هي قوله وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ و يمكن أن يفسر على وجه آخر و ذلك أن الآخرة اليوم عدم محض و الإنسان قدم من العدم و إلى العدم ينقلب فقد صح أنه قدم من الآخرة و يرجع إلى الآخرة. و روي أن العالم بالبصر أي بالبصيرة فيكون هو و قوله فالناظر بالقلب سواء و إنما قاله تأكيدا و على هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير و تأويل فأما الرواية المشهورة فالوجه في تفسيرها أن يكون قوله فالناظر مبتدأ و العامل صفة له و قوله بالبصر يكون مبتدأ عمله جملة مركبة من مبتدأ و خبر موضعها رفع لأنها خبر المبتدأ الذي هو فالناظر و هذه الجملة المذكورة قد دخلت عليها كان فالجار و المجرور و هو الكلمة الأولى منها منصوبة الموضع لأنها خبر كان و يكون قوله فيما بعد أن يعلم منصوب شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 178الموضع لأنه بدل من البصر الذي هو خبر يكون و المراد بالبصر هاهنا البصيرة فيصير تقدير الكلام فالناظر بقلبه العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر و البصيرة بأن يعلم أ له له أم عليه. و يروى كالسابل على غير طريق و السابل طالب السبيل و
قد جاء في الخبر المرفوع من عمل بغير هدى لم يزدد من الله إلا بعدا
و في كلام الحكماء العامل بغير علم كالرامي من غير وتر
وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ وَ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ ص إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ وَ يُحِبُّ الْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ(10/159)
هذا الكلام مشتق من قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً و هو تمثيل ضربه الله تعالى لمن ينجع فيه الوعظ و التذكير من البشر و لمن لا يؤثر ذلك فيه مثله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبت و الأرض السبخة الخبيثة لا تنبت و كلام أمير المؤمنين ع إلى هذا المعنى يومئ يقول إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله و الحالتان الظاهرتان ميله إلى العقل و ميله إلى الهوى فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة و الفوز فهذا هو الذي طاب شرحنهج البلاغة ج : 9 ص : 179ظاهره و طاب باطنه و المتبع لمقتضى هواه و عادته و دين أسلافه يرزق الشقاوة و العطب و هذا هو الذي خبث ظاهره و خبث باطنه. فإن قلت فلم قال فما طاب و هلا قال فمن طاب و كذلك في خبث قلت كلامه في الأخلاق و العقائد و ما تنطوي عليه الضمائر يول ما طاب من هذه الأخلاق و الملكات و هي خلق النفس الربانية المريدة للحق من حيث هو حق سواء كان ذلك مذهب الآباء و الأجداد أو لم يكن و سواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند العامة أو لم يكن و سواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل يستطيب باطنه يعني ثمرته و هي السعادة و هذا المعنى من مواضع ما لا من مواضع من. فأما الخبر المروي فإنه مذكور في كتب المحدثين و قد فسره أصحابنا المتكلمون فقالوا إن الله تعالى قد يحب المؤمن و محبته له إرادة إثابته و يبغض عملا من أعماله و هو ارتكاب صغيرة من الصغائر فإنها مكروهة عند الله و ليست قادحة في إيمان المؤمن لأنها تقع مكفرة و كذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه نحو أن يكون فاسقا لم يتب و يحب عملا من أعماله نحو أن يطيع ببعض الطاعات و حبه لتلك الطاعة هي إرادته تعالى أن يسقط عنه بها بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم(10/160)
وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ وَ الْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 180السقي مصدر سقيت و السقي بالكسر النصيب من الماء. و أمر الشي ء أي صار مرا. و هذا الكلام مثل في الإخلاص و ضده و هو الرياء و حب السمعة فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير فإنه زاك حلو الجنى و كل عمل يكون الرياء و حب الة مدده فليس بزاك و تكون ثمرته مرة المذاق شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 11155- و من خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش(10/161)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنَعْتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ يَبْسُطُهَا الَّلَامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا وَ تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا وَ هِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ وَ لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ(10/162)