و أما قوله و ابتلى فالابتلاء إنزال مضرة بالإنسان على سبيل الاختبار كالمرض و الفقر و المصيبة و قد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر. و الباطن العالم يقال بطنت الأمر أي خبرته و تكن الصدور تستر و ما تخون العيون ما تسترق من اللحظات و الرمزات على غير الوجه الشرعي. و النجيب المنجب و البعيث المبعوث شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 26مِنْهَا فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ وَ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ وَ قَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اسْتِبْعَادَ أَجَلٍ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ أَ مَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَ مَا جَمَعُوا بُوراً وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ وَ لَا مِنْ سَيِّئَةٍ يُسْتَعْتَبُونَ فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ(9/236)
قوله ع فإنه و الله الجد الضمير للأمر و الشأن الذي خاض معهم في ذكره و وعظهم بنزوله ثم أوضحه بعد إجماله فقال إنه الموت الذي دعا فأسمع و حدا فأعجل. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 270و سواد الناس عامتهم. و من هاهنا إما بمعنى الباء أي لا يغرنك الناس بنفسك و صحتك وبابك فتستبعد الموت اغترارا بذلك فتكون متعلقة بالظاهر و إما أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك و راكنا إليها. و الإقلال الفقر و طول أمل منصوب على أنه مفعول. فإن قلت المفعول له ينبغي أن يكون الفعل علة في المصدر و هاهنا ليس الأمن علة طول الأمل بل طول الأمل علة الأمن قلت كما يجوز أن يكون طول الأمل علة الأمن يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل أ لا ترى أن الإنسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء و وجوه المكاسب لأجل ما عنده من الأمن و يجوز أن ينصب طول أمل على البدل من المفعول المنصوب برأيت و هو من و يكون التقدير قد رأيت طول أمل من كان و هذا بدل الاشتمال و قد حذف منه الضمير العائد كما حذف من قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ.... و أعواد المنايا النعش و يتعاطى به الرجال الرجال يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء و تارة على أكتاف هؤلاء و قد فسر ذلك بقوله حملا على المناكب و إمساكا بالأنامل. و المشيد المبني بالشيد و هو الجص. البور الفاسد الهالك و قوم بور أي هلكى قال سبحانه وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً و هو جمع واحدة بائر كحائل و حول. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 271و يستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين على اختف الروايتين فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسم فاعله فمعناه لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم كما كانوا في أيام حياتهم أي لا يعاتبهم الناس أو لا يستطيعون و هم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة عليها و من رواه يستعتبون بفتح حرف المضارعة فهو من استعتب فلان أي طلب أن يعتب أي يرضى تقول استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. و أشعر(9/237)
فلان التقوى قلبه جعله كالشعار له أي يلازمه ملازمة شعار الجسد. و برز مهله و يروى بالرفع و النصب فمن رواه بالرفع جعله فاعل برز أي من فاق شوطه برز الرجل على أقرانه أي فاقهم و المهل شوط الفرس و من رواه بالنصب جعل برز بمعنى أبرز أي أظهر و أبان فنصب حينئذ على المفعولية. و اهتبلت غرة زيد أي اغتنمتها و الهبال الصياد الذي يهتبل الصيد أن يغره و ذئب هبل أي محتال هبلها منصوب على المصدر كأنه من هبل مثل غضب غضبا أي اغتنموا و انتهزوا الفرصة الانتهاز الذي يصلح لهذه الحال أي ليكن هذا الاهتبال بجد و همة عظيمة فإن هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم. و كذا قوله و اعملوا للجنة عملها أي العمل الذي يصلح أن يكون ثمرته الجنة. و دار مقام أي دار إقامة و المجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد. و الأوفاز جمع وفز بسكون الفاء و هو العجلة و الظهور الركاب جمع ظهر و بنو فلان مظهرون أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال كما يقال منجبون إذا كانوا أصحاب نجائب و الزيال المفارقة زايله مزايلة و زيالا أي فارقه
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 133272- و من كلام له عوَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا وَ قَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الآْصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانُ الْمُضِيئَةُ وَ آتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْيَانِعَةُ(9/238)
الضمير في له يرجع إلى الله تعالى و قد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة و إن لم يذكره الرضي رحمه الله و معنى انقياد الدنيا و الآخرة له نفوذ حكمه فيهما و شياع قدرته و عمومها. و أزمتها لفظة مستعارة من انقياد الإبل بأزمتها مع قائدها و المقاليد المفاتيح. و معنى سجود الأشجار الناضرة له تصرفها حسب إرادته و كونها مسخرة له محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها فجعل ع ذلك خضوعا منها لمشيئته و استعار لها ما هو أدل على خضوع الإنسان من جمع أفعاله و هو السجود و منه قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 273قوله و قدحت له من قضبانها بالضم جمع قضيب و هو الغصن و المعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر أخضر نارا و النار ضد هذا الجسم المخصوص و هذا هو قوله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ بعينه. و آتت أكلها أعطت ما يؤكل منها و هو أيضا من الألفاظ القرآنية. و اليانعة الناضجة و بكلماته أي بقدرته و مشيئته و هذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على أحد الأقسام الأربعة المذكورة في كتبنا في أصول الفقه و هو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية في معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه كنقل لفظة الصلاة الذي هو في أصل اللغة للدعاء إلى هيئات و أوضاع مخصوصة و لم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها و لا يصح قول من قال المراد بذلك قوله كن لأنه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم و قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من باب التوسع و الاستعارة المملوء منهما القرآن و المراد سرعة المؤاتاةو عجلة الإيجاد و أنه إذا أراد من أفعاله أمرا كان(9/239)
مِنْهَا وَ كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لَا يَعْيَا لِسَانُهُ وَ بَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 274يقال هو نازل بين أظهرهم و بين ظهريهم و بين ظهرانيهم بفتح النون أي نازل بينهم فإن قلت لما ذا قالت العرب بين أظهرهم و لم تقل بين صدورهم قلت أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه و المراماة من دونه لأن النزيل إذا حامى القوم عنه تقبلوا شبا الأسنة و أطراف السيوف عنه بصدورهم و كان هو محروسا مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم. و لا يعيا لسانه لا يكل عييت بالمنطق فأنا عيي على فعيل و يجوز عي الرجل في منطقه بالتشديد فهو عي على فعل
مِنْهَا أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِينَ بِهِ
الضمير في أرسله راجع إلى النبي ص و هو مذكور في كلام لم يحكه جامع الكتاب. و الفترة زمان انقطاع الوحي و التنازع من الألسن أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 275الصنم و قوما يعبدون الشمس و قوما يعبدون الشيطان و قوما يعبدون المسيح فكلائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها. و قفى به الرسل أتبعها به قال سبحانه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا و منه الكلام المقفى و سميت قوافي الشعر لأن بعضها يتبع بعضا. و العادلين به الجاعلين له عديلا أي مثلا و هو من الألفاظ القرآنية أيضا قال الله تعالى بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(9/240)