معنى تعجبه منهم فقال إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا و ذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التكالب و التهارش على هذه الجيفة الخسيسة ثم عاد إلى نظام الكلام فقال ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف و مثل هذا الاعتراض في الكلام كثير و خصوصا في القرآن و قد ذكرنا منه فيما تقدم طرفا. قوله و القاصمة الزحوف القاصمة الكاسرة و سماها زحوفا تشبيها لمشيها قدما بمشي الدبى الذي يهلك الزروع و يبيدها و الزحف السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 143قوله و تزيغ قلوب أي تميل و هذه اللفظة و التي بعدها دالتان على خلاف ما تذهب إليه الإمامية من أن المؤمن لا يكفر و ناصرتان لمذهب أصحابنا. و نجومها مصدر نجم الشر إذا ظهر. من أشرف لها مصادمها و قابلها و من سعى فيها أي في تسكينها و إطفائها و هذا كله إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان. و التكادم التعاض بأدنى الفم كما يكدم الحمار و يقال كدم يكدم و المكدم المعض. و العانة القطيع من حمر الوحش و الجمع عون. تغيض فيها الحكمة تنقض. فإن قلت ليس قوله و تنطق فيها الظلمة واقعا في نقيض قوله تغيض فيها الحكمة فأين هذا من الخطابة التي هو فيها نسيج وحده قلت بل المناقضة ظاهرة لأن الحكمة إذا غاضت فيها لم ينطق بها أحد و لا بد من نطق ما فإذا لم تنطق الحكماء وجب أن يكون النطق لمن ليس من الحكماء فهو من الظلمة فقد ثبت التناقض. و المسحل المبرد يقول تنحت أهل البدو و تسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد و أهل البدو أهل البادية و يجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التي في طرف شكيم اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى في الطرف الآخر و تدخل إحداهما في الأخرى بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه. و الكلكل الصدر و ترضهم تدقهم دقا جريشا.(10/128)
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 144قوله تضيع في غبارها الوحدان جمع واحد مثل شاب و شبان و راع و رعيان و يجوز الأحدان بالهمز أي من كان يسير وحده فإنه يهلك بالكلية في غبارها و أما إذا كانوا جماعة ركبانا فإنهم يضلون و هو أقرب من الهلاك و يجوز أن يكون الوحدان جمع حد يقال فلان أوحد الدهر و هؤلاء الوحدان أو الأحدان مثل أسود و سودان أي يضل في هذه الفتنة و ضلالها الذي كنى عنه بالغبار فضلاء عصرها و علماء عهدها لغموض الشبهة و استيلاء الباطل على أهل وقتها و يكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو و الركبان جمع راكب و لا يكون إلا ذا بعير قوله ترد بمر القضاء أي بالبوار و الهلاك و الاستئصال. فإن قلت أ يجوز أن يقال للفتنة القبيحة إنها من القضاء. قلت نعم لا بمعنى الخلق بل بمعنى الإعلام كما قال سبحانه وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ أي أعلمناهم أي ترد هذه الفتنة بإعلام الله تعالى لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم التي لا تبقي و لا تذر فذلك الإعلام هو المر الذي لا يبلغ الوصف مرارته لأن الأخبار عن حلول المكروه الذي لا مدفع عنه و لا محيص منه مر جدا. قوله و تحلب عبيط الدماء أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دما عبيطا و هذه كناية عن الحرب و قد قال ع في موضع آخر أما و الله ليحلبنها دما و ليتبعنها ندما و العبيط الدم الطري الخالص. و ثلمت الإناء أثلمه بالكسر. و الأكياس العقلاء. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 145و الأرجاجمع رجس و هو القذر و النجس و المراد هاهنا الفاسقون فإما أن يكون على حذف المضاف أي و يدبرها ذوو الأرجاس أو أن يكون جعلهم الأرجاس أنفسها لما كانوا قد أسرفوا في الفسق فصاروا كأنهم الفسق و النجاسة نفسها كما يقال رجل عدل و رجل رضا. قوله مرعاد مبراق أي ذات وعيد و تهدد و يجوز أن يعني بالرعد صوت السلاح و قعقعته و بالبرق لونه و(10/129)
ضوءه. و كاشفة عن ساق عن شدة و مشقة. قوله بريئها سقيم يمكن أن يعني بها أنها لشدتها لا يكاد الذي يبرأ منها و ينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة بل لا بد أن يستثني شيئا من الفسق و الضلال أي لشدة التباس الأمر و اشتباه الحال على المكلفين حينئذ. و يمكن أن يعني به أن الهارب منها غير ناج بل لا بد أن يصيبه بعض معرتها و مضرتها. و ظاعنها مقيم أي ما يفارق الإنسان من أذاها و شرها فكأنه غير مفارق له لأنه قد أبقى عنده ندوبا و عقابيل من شرورها و غوائلها
مِنْهَا بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَ خَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَ بِغُرُورِ الْإِيمَانِ فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وَ أَعْلَامَ الْبِدَعِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 146وَ الْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةوَ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ وَ اقْدَمُوا عَلَى اللَّهِ مَظْلُومِينَ وَ لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ وَ اتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَ مَهَابِطَ الْعُدْوَانِ وَ لَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَعْصِيَةَ وَ سَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ
يقال طل دم فلان فهو مطلول أي مهدر لا يطلب به و يجوز أطل دمه و طله الله و أطله أهدره و لا يقال طل دم فلان بالفتح و أبو عبيدة و الكسائي يقولانه. و يختلون يخدعون بالأيمان التي يعقدونها و يقسمون بها و بالإيمان الذي يظهرونه و يقرون به. ثم قال فلا تكونوا أنصار الفتن و أعلام البدع أي لا تكونوا ممن يشار إليكم في البدع كما يشار إلى الأعلام المبنية القائمة و
جاء في الخبر المرفوع كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب
و هذه اللفظة يرويها كثير من الناس لأمير المؤمنين ع. قوله و اقدموا على الله مظلومين
جاء في الخبر كن عبد الله المقتول(10/130)
و مدارج الشيطان جمع مدرجة و هي السبيل التي يدرج فيها و مهابط العدوان محاله التي يهبط فيها. و لعق الحرام جمع لعقة بالضم و هي اسم لما تأخذه الملعقة و اللعقة بالفتح المرة الواحدة. قوله فإنكم بعين من حرم يقال أنت بعين فلان أي أنت بمرأى منه و قد
قال ع في موضع آخر بصفين فإنكم بعين الله و مع ابن عم رسول الله
و هذا من باب الاستعارة قال سبحانه وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي و قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنا
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 152147- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ وَ بِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ لَا تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَ الْمَصْنُوعِ وَ الْحَادِّ وَ الْمَحْدُودِ وَ الرَّبِّ وَ الْمَرْبُوبِ الْأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ وَ الْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ وَ السَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ وَ الْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ وَ الشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ وَ الْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ وَ الظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ وَ الْبَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ بَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا وَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ بَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ وَ مَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ وَ مَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومٌ وَ رَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبٌ وَ قَادِرٌ إِذْ لَا مَقْدُورٌ
أبحاث كلامية(10/131)
في هذا الفصل أبحاث أولها في وجوده تعالى و إثبات أن للعالم صانعا و هاتان طريقتان في الدلالة على وجوده الأول سبحانه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 148إحداهما الطريقة المذكورة في هذا الفصل و هي طريقة المتكلمين و هي إثبات أن الأجسام محدثة و لا بد للمحدث من محدث. الثانية إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود. و ذلك لأن الوجود ينقسم بالاعتبار الأول إلى قسمين واجب و ممكن و كل ممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب لأن طبيعة الممكن يمتنع من أن يستقل بنفسه في قوامه فلا بد من واجب يستند إليه و ذلك الواجب الوجود الضروري الذي لا بد منه هو الله تعالى. و ثانيها إثبات أزليته و بيانه ما ذكره في هذا الفصل و هو أن العالم مخلوق له سبحانه حادث من جهته و المحدث لا بد له من محدث فإن كان ذلك المحدث محدثا عاد القول فيه كالقول في الأول و يتسلسل فلا بد من محدث قديم و ذلك هو الله تعالى. و ثالثها أنه لا شبيه له أي ليس بجسم كهذه الأجسام و بيانه ما ذكر أيضا أن مخلوقاته متشابهة يعني بذلك ما يريده المتكلمون من قولهم الأجسام متماثلة في الجسمية و أن نوع الجسمية واحد أي لا يخالف جسم جسما بذاته و إذا كانت متماثلة صح على كل واحد منها ما صح على الآخر فلو كان له سبحانه شبيه منها أي لو كان جسما مثلها لوجب أن يكون محدثا كمثلها أو تكون قديمة مثله و كلا الأمرين محال. و رابعها أن المشاعر لا تستلمه و روي لا تلمسه و المشاعر الحواس و بيانه أنه تعالى ليس بجسم لما سبق و ما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسة له لأن إدراك المشاعر مدركاته مقصور على الأجسام و هيئاتها و الاستلام في اللغة لمس الحجر باليد و تقبيله و لا يهمز لأن أصله من السلام و هي الحجارة كما يقال استنوق الجمل و بعضهم يهمزه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 149و خامسها أن السواتر لا تحجبه و بيانه أن السواتر ولحجب إنما تحجب ما كان في جهة و ذلك لأنها ذوات أين و وضع فلا نسبة(10/132)