شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 151137- و من خطبة له عوَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ وَ الِاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ وَ الْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَ الْجَفْوَةِ الْجَافِيَةُ وَ النَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ وَ يَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَايَا قَدِ اقْتَرَبَتْ فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ وَ اعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا وَ انْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ وَ تَئُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ وَ آثَارُهَا كَآثَارِ السِّلَامِ يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لآِخِرِهِمْ وَ آخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ وَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ وَ عَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ وَ الْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ وَ يَتَلَاعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ وَ الْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ وَ تَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا وَ تَلْتَبِسُ الآْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 138مَنْ أَشْرَ لَهَا(10/123)
قَصَمَتْهُ وَ مَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ وَ عَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَ تَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ وَ تَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا وَ تَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ وَ يَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَ تَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ وَ تَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ وَ تَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ يَهْرُبُ مِنْهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِيهَا الْأَرْحَامُ وَ يُفَارَقُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَ ظَاعِنُهَا مُقِيمٌ
مداحر الشيطان الأمور التي يدحر بها أي يطرد و يبعد دحرته أدحره دحورا قال تعالى دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ و قال سبحانه اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي مقصى. و مزاجره الأمور يزجر بها جمع مزجر و مزجرة و كثيرا ما يبني ع من الأفعال مفعلا و مفعلة و يجمعه و إذا تأملت كلامه عرفت ذلك. و حبائل الشيطان مكايده و أشراكه التي يضل بها البشر و مخاتله الأمور التي يختل بها بالكسر أي يخدع. لا يؤازى فضله لا يساوى و اللفظة مهموزة آزيت فلانا حاذيته و لا يجوز وازيته. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 139و لا يجبر فقده لا ي أحد مسده بعده و الجفوة الجافية غلظ الطبع و بلادة الفهم. و يستذلون الحكيم يستضيمون العقلاء و اللام هاهنا للجنس كقوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. يحيون على فترة على انقطاع الوحي ما بين نبوتين. و يموتون على كفرة بالفتح واحد الكفرات كالضربة واحدة الضربات. و يروى ثم إنكم معشر الناس و الأغراض الأهداف و سكرات النعمة ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر قال الشاعر(10/124)
خمس سكرات إذا مني المرء بها صار عرضة للزمان سكرة المال و الحداثة و العشق و سكر الشراب و السلطانو من كلام الحكماء للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل و البوائق الدواهي جمع بائقة يقال باقتهم الداهية بوقا أي أصابتهم و كذلك باقتهم بئوق على فعول و ابتاقت عليهم بائقة شر مثل انباحت أي انفتقت و انباق عليهم الدهر هجم بالداهية كما يخرج الصوت من البوق و
في الحديث لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه
أي غوائله و شره. و القتام بفتح القاف الغبار و الأقتم الذي يعلوه قتمة و هو لون فيه غبرة و حمرة. و العشوة بكسر العين ركوب الأمر على غير بيان و وضوح و يروى و تبينوا في قتام العشوة كما قرئ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا و فتثبتوا. شرح نهج البلاغج : 9 ص : 140و اعوجاج الفتنة أخذها في غير القصد و عدولها عن المنهج. ثم كنى عن ظهور المستور المخفي منها بقوله عند طلوع جنينها و ظهور كمينها. و الجنين الولد ما دام في البطن و الجمع أجنة و يجوز ألا يكون الكلام كناية بل صريحا أي عند طلوع ما استحن منها أي استتر و ظهور ما كمن أي ما بطن. و كنى عن استحكام أمر الفتنة بقوله و انتصاب قطعها و مدار رحاها. ثم قال إنها تبدو يسيرة ثم تصير كثيرة. و الفظاعة مصدر فظع بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز المقدار و كذلك أفظع الرجل فهو مفظع و أفظع الرجل على ما لم يسم فاعله نزل به أمر عظيم و أفظعت الشي ء وجدته فظيعا و مثله استفظعته و هذا المعنى كما قال الشاعر و لربما هاج الكبير و من الأمور لك الصغير
و في المثل و الشر تبدؤه صغاره و قال الشاعر
فإن النار بالعودين تذكى و إن الحرب أولها كلام
و قال أبو تمام
رب قليل جدا كثيرا كم مطر بدؤه مطير
و قال أيضا
لا تذيلن صغير همك و انظر كم بذي الأسل دوحة من قضيب(10/125)
قوله شبابها كشباب الغلام بالكسر مصدر شب الفرس و الغلام يشب و يشب شبابا و شبيبا إذا قمص و لعب و أشببته أنا أي هيجته. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 141و السلام الحجارة جمع واحده سلمة بكسر اللام يذكر الفتنة و يقول إنها تبدو في أول الأمر و أربابها يمرحون و يشبون كما يشب الغلام و يمرح ثم تئول إلى أن تعقب فيهم آثارا كآثار الحجارة في الأبدان قال الشاعرو الحب مثل الحرب أولها التخيل و النشاطو ختامها أم الربيق النكر و الضرب القطاط(10/126)
ثم ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم و كلهم ظالم أولهم يقود آخرهم كما يقود الإنسان القطار من الإبل و هو أمامها و هي تتبعه و آخرهم يقتدي بأولهم أي يفعل فعله و يحذو حذوه. و جيفة مريحة منتنة أراحت ظهر ريحها و يجوز أن تكون من أراح البعير أي مات و قد جاء في أراح بمعنى أنتن راح بلا همز. ثم ذكر تبرؤ التابع من المتبوع يعني يوم القيامة. فإن قلت إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و هاهنا قد عكس ذلك فقال إن التابع يتبرأ من المتبوع قلت إنه قد ورد في الكتاب العزيز مثل ذلك في قوله أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً فقولهم لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً هو التبرؤ و هو قوله حكاية عنهم وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و هذا هو التبرؤ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 142ثم ذكر ع أن القائد يتبرأ من المقود أي يتبرأ المتبوع من التابع فيكون كل من الفريقين تبرأ من صاحبه كما قال سبحانه ثُمَّ يَوْ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. و يتزايلون يتفرقون. قوله ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف طالعها مقدماتها و أوائلها و سماها رجوفا لشدة الاضطراب فيها. فإن قلت أ لم تكن قلت إن قوله عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع يعني به يوم القيامة فكيف يقول ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة و هذا إنما يكون قبل القيامة قلت إنه لما ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة و هي الدنيا أراد أن يقول بعده بلا فصل ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف لكنه لما تعجب من تزاحم الناس و تكالبهم على تلك الجيفة أراد أن يؤكد ذلك التعجب فأتى بجملة معترضة بين الكلامين تؤكد(10/127)