يذكر ع قوما من فرق الضلال أخذوا يمينا و شمالا أي ضلوا عن الطريق الوسطى التي هي منهاج الكتاب و السنة و ذلك لأن كل فضيلة و حق فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة و هما جانبا الإفراط و التفريط كالفطانة التي هي محبوسة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 127بالجربزة و اباوة و الشجاعة التي هي محبوسة بالتهور و الجبن و الجود المحبوس بالتبذير و الشح فمن لم يقع على الطريق الوسطى و أخذ يمينا و شمالا فقد ضل. ثم فسر قوله أخذ يمينا و شمالا فقال ظعنوا ظعنا في مسالك الغي و تركوا مذاهب الرشد تركا و نصب تركا و ظعنا على المصدرية و العامل فيهما من غير لفظهما و هو قوله أخذوا. ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد و لا بد من كونه و وجوده و إنما سماه كائنا لقرب كونه كما قال تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و نهاهم أن يستبطئوا ما يجي ء في الغد لقرب وقوعه كما قال و إن غدا للناظرين قريب
و قال الآخر
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد
و قال تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. ثم قال كم من مستعجل أمرا و يحرص عليه فإذا حصل ود أنه لم يحصل قال أبو العتاهية
من عاش لاقى ما يسوء من الأمور و ما يسرو لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در
و قال آخر
فلا تتمنين الدهر شيئا فكم أمنية جلبت منية(10/113)
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 128و قال تعالى وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و تباشير الصبح أوائله. ثم قال يا قوم قد دنا وقت القيامة و ظهور الفتن التي تظهر أمامها. و إبان الشي ء بالكسر و اليد وقته و زمانه و كنى عن تلك الأهوال بقوله و دنو من طلعة ما لا تعرفون لأن تلك الملاحم و الأشراط الهائلة غير معهود مثلها نحو دابة الأرض و الدجال و فتنته و ما يظهر على يده من المخاريق و الأمور الموهمة و واقعة السفياني و ما يقتل فيها من الخلائق الذين لا يحصى عددهم. ثم ذكر أن مهدي آل محمد ص و هو الذي عنى بقوله و إن من أدركها منا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير و هو المهدي و أتباع الكتاب و السنة. و يحذو فيها يقتفي و يتبع مثال الصالحين ليحل في هذه الفتن و ربقا أي حبلا معقودا. و يعتق رقا أي يستفك أسرى و ينقذ مظلومين من أيدي ظالمين و يصدع شعبا أي يفرق جماعة من جماعات الضلال و يشعب صدعا يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى و الإيمان. قوله ع في سترة عن الناس هذا الكلام يدل على استتار هذا الإنسان المشار إليه و ليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم و إن ظنوا أنه تصريح بقولهم و ذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان و يكون مستترا مدة و له دعاة يدعون إليه و يقررون أمره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار و يملك الممالك شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 129و يقهر الدول و يمهد الأرض كما ورد في قوله لا يبصر القائف أي هو استتار شديد لا يدركه القائف و هو الذي يعرف الآثار و الجمع قافة و لا يعرف أثره و لو استقصى في الطلب و تابع النظر و التأمل. و يقال شحذت السكين أشحذه شحذا أي حددته يريد ليحرضن في هذه الملاحم قوم على الحرب و قتل أهل الضلال و لتشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف و يرقق حده. ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذي العزائم فقال تجلى بصائرهم(10/114)
بالتنزيل أي يكشف الرين و الغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن و إلهامهم تأويله و معرفة أسراره. ثم صرح بذلك فقال و يرمى بالتفسير في مسامعهم أي يكشف لهم الغطاء و تخلق المعارف في قلوبهم و يلهمون فهم الغوامض و الأسرار الباطنة و يغبقون كأس الحكم بعد الصبوح أي لا تزال المعارف الربانية و الأسرار الإلهية تفيض عليهم صباحا و مساء فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل لهم في الآصال و الصبوح كناية عما يحصل لهم منه في الغدوات و هؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بين الزهد و الحكمة و الشجاعة و حقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لولي الله الذي يجتبيه و يخلقه في آخر أوقات الدنيا فيكون خاتمة أوليائه و الذي يلقى عصا التكليف عنده
مِنْهَا وَ طَالَ الْأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ وَ يَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 130الْأَجَلُ وَ اسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ وَ اشْتَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللَّ بِالصَّبْرِ وَ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ وَ دَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ(10/115)
هذا الكلام يتصل بكلام قبله لم يذكره الرضي رحمه الله و هو وصف فئة ضالة قد استولت و ملكت و أملى لها الله سبحانه قال ع و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزي و يستوجبوا الغير أي النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه كما قال وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً و كما قال تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. حتى إذا اخلولق الأجل أي قارب أمرهم الانقضاء من قولك اخلولق السحاب أي استوى و صار خليقا بأن يمطر و اخلولق الرسم استوى مع الأرض. و استراح قوم إلى الفتن أي صبا قوم من شيعتنا و أوليائنا إلى هذه الفئة و استراحوا إلى ضلالها و فتنتها و اتبعوها. و اشتالوا عن لقاح حربهم أي رفعوا أيديهم و سيوفهم عن أن يشبوا الحرب بينهم و بين هذه الفئة مهادنة لها و سلما و كراهية للقتال يقال شال فلان كذا أي رفعه و اشتال افتعل هو في نفسه كقولك حجم زيد عمرا و احتجم هو نفسه و لقاح حربهم هو بفتح اللام مصدر من لقحت الناقة. قوله لم يمنوا هذا جواب قوله حتى إذا و الضمير في يمنوا راجع إلى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 131العارفين الذين تقدم ذكرهفي الفصل السابق ذكره يقول حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال و استراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم و فتنتهم إما تقية منهم أو لشبهة دخلت عليهم أنهض الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان الذين خصهم بحكمته و أطلعهم على أسرار ملكوته فنهضوا و لم يمنوا على الله تعالى بصبرهم و لم يستعظموا أن يبذلوا في الحق نفوسهم قال حتى إذا وافق قضاء الله تعالى و قدره كي ينهض هؤلاء بقضاء الله و قدره في انقضاء مدة تلك الفئة و ارتفاع ما كان شمل الخلق من البلاء بملكها و إمرتها حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم و هذا معنى لطيف يعني أنهم أظهروا بصائرهم و عقائدهم و قلوبهم(10/116)
للناس و كشفوها و جردوها من أجفانها مع تجريد السيوف من أجفانها فكأنها شي ء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف و لا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الأجسام للأبصار فكذلك ما يكون محمولا عليها و ن الناس من فسر هذا الكلام فقال أراد بالبصائر جمع بصيرة و هو الدم فكأنه أراد طلبوا ثأرهم و الدماء التي سفكتها هذه الفئة و كأن تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة على أسيافهم التي جردوها للحرب و هذا اللفظ قد قاله بعض الشعراء المتقدمين بعينه
راحوا بصائرهم على أكتافهم و بصيرتي يعدو بها عتد وأى
و فسره أبو عمرو بن العلاء فقال يريد أنهم تركوا دم أبيهم و جعلوه خلفهم أي لم يثأروا به و أنا طلبت ثأري و كان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت البصيرة الترس أو الدرع و يرويه حملوا بصائرهم شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ وَ اتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَائِجِ وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ وَ نَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ(10/117)