إذا أوصى أن يوصي بالاعتقاد و العمل كما قال عمر لأبي بكر في واقعة أهل الردة كيف تقاتلهم و هم مقرون بالشهادتين و
قد قال رسول الله ص أمرت بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال أبو بكر إنه قال تتمة هذا فإذا هم قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها
و أداء الزكاة من حقها. قلت مراده بقوله ما لم تشردوا ما لم ترجعوا عن ذلك فكأنه قال خلاكم ذم إن وحدتم الله و اتبعتم سنة رسوله و دمتم على ذلك و لا شبهة أن هذا الكلام منتظم و أن اللفظتين الأوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة و بتقدير أن يغنيا عنه فإن في ذكره مزيد تأكيد و إيضاح غير موجودين لو لم يذكر و هذا كقوله تعالى وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ و ليس لقائل أن يقول من لا يخشى الله لا يكون مطيعا لله و الرسول و أي حاجة به إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه قوله حمل كل امرئ مجهوده و خفف عن الجهلة هذا كلام متصل بما قبله شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 122لأنه لما قال ما لم تشردوا أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية و أن يدوموا عليه و هذا في الظاهر تكليف أمور شاقة فاستدرك بكلام يدل على التخفيفقال إن التكاليف على قدر المكلفين فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة و أرباب الجهل و المبادئ كالنساء و أهل البادية و طوائف من الناس الغالب عليهم البلادة و قلة الفهم كأقاصي الحبشة و الترك و نحوهم و هؤلاء عند المكلفين غير مكلفين إلا بحمل التوحيد و العدل بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور المفصلة و حل المشكلات الغامضة و قد روي حمل على صيغة الماضي و مجهوده بالنصب و خفف على صيغة الماضي أيضا و يكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره و الرواية الأولى أكثر و أليق. ثم قال رب رحيم أي ربكم رب رحيم و دين قويم أي مستقيم و إمام عليم يعني رسول الله ص و من الناس من(10/108)


يجعل رب رحيم فاعل خفف على رواية من رواها فعلا ماضيا و ليس بمستحسن لأن عطف الدين عليه يقتضي أن يكون الدين أيضا مخففا و هذا لا يصح. ثم دعا لنفسه و لهم بالغفران. ثم قسم الأيام الماضية و الحاضرة و المستقبلة قسمة حسنة فقال أنا بالأمس صاحبكم و أنا اليوم عبرة لكم و غدا مفارقكم إنما كان عبرة لهم لأنهم يرونه بين أيديهم ملقى صريعا بعد أن صرع الأبطال و قتل الأقران فهو كما قال الشاعر
أكال أشلاء الفوارس بالقنا أضحى بهن و شلوه مأكول(10/109)


و يقال دحضت قدم فلان أي زلت و زلقت. ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان و مهاب الرياح و ظلال الغمام لأن ذلك كله سريع الانقضاء لا ثبات له. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 123قوله اضمحل في الجو متلفقها و عفا في الأرض مخطها اضمحل ذهب و الميم زائدة و منه الضحل وو الماء القليل و اضمحل السحاب تقشع و ذهب و في لغة الكلابيين امضحل الشي ء بتقديم الميم و متلفقها مجتمعها أي ما اجتمع من الغيوم في الجو و التلفيق الجمع و عفا درس و مخطها أثرها كالخطة. قوله و إنما كنت جارا جاوركم بدني أياما في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه كثر العقلاء من أمر النفس و أن هوية الإنسان شي ء غير هذا البدن. و قوله ستعقبون مني أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة يعني بدنا خلاء أي لا روح فيه بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها و هي العقل و النطق و القوة و غير ذلك ثم وصف تلك الجثة فقال ساكنة بعد حرك بالفتح أي بعد حركة و صامتة بعد نطق و هذا الكلام أيضا يشعر بما قلناه من أمر النفس بل يصرح بذلك أ لا تراه قال ستعقبون مني جثة أي تستبدلون بي جثة صفتها كذا و تلك الجثة جثته ع و محال أن يكون العوض و المعوض عنه واحدا فدل على أن هويته ع التي أعقبنا منها الجنة غير الجثة. قوله ليعظكم هدوي أي سكوني و خفوت إطراقي مثله خفت خفوتا سكن و خفت خفاتا مات فجأة و إطراقه إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض لضعفه عن رفع جفنه و سكون أطرافه يداه و رجلاه و رأسه ع. قال فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع و صدق ع فإن خطبا أخرس ذلك اللسان و هد تلك القوى لخطب جليل و يجب أن يتعظ العقلاء به و ما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال بل بالإضافة إلى من سمعها و أفكر فيها فضلا عن مشاهدتها عيانا و في هذا الكلام شبه من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال أحدهم حركنا بسكونه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 124و قال الآخر قد(10/110)


كان سيفك لا يجف و كانت مراقيك لا ترام و كانت نقماتك لا تؤمن و كانت عطاياك يفرح بها و كان ضياؤك لا ينكشف فأصبح ضوؤك قد خمد و أصبحت نقماتك لا تخشى و عطاياك لا ترجى و مراقيك لا تمنع و سيفك لا طع. و قال الآخر انظروا إلى حلم المنام كيف انجلى و إلى ظل الغمام كيف انسلى و قال آخر ما كان أحوجه إلى هذا الحلم و إلى هذا الصبر و السكون أيام حياته و قال آخر القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة طويت في ذراعين. و قال الآخر أصبح آسر الأسراء أسيرا و قاهر الملوك مقهورا كان بالأمس مالكا فصار اليوم هالكا. ثم قال ع ودعتكم وداع امرئ مرصد للتلاقي أرصدته لكذا أي أعددته له و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي و التلاقي هاهنا لقاء الله و يروى وداعيكم أي وداعي إياكم و الوداع مفتوح الواو. ثم قال غدا ترون أيامي و يكشف لكم عن سرائري و تعرفونني بعد خلو مكاني و قيام غيري مقامي هذا معنى قد تداوله الناس قديما و حديثا قال أبو تمام
راحت وفود الأرض عن قبره فارغة الأيدي ملاء القلوب قد علمت ما رزئت إنما يعرف قدر الشمس بعد الغروبو قال أبو الطيب
و نذمهم و بهم عرفنا فضله و بضدها تتبين الأشياء
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 125و من أمثالهمالضد يظهر حسنة الضد
و منها أيضا لو لا مرارة المرض لم تعرف حلاوة العافية. و إنما قال ع و يكشف لكم عن سرائري لأنهم بعد فقده و موته يظهر لهم و يثبت عندهم إذا رأوا و شاهدوا إمرة من بعده أنه إنما كان يريد بتلك الحروب العظيمة وجه الله تعالى و ألا يظهر المنكر في الأرض و إن ظن قوم في حياته أنه كان يريد الملك و الدنيا(10/111)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 150126- و من خطبة له ع و يومئ فيها إلى الملاحموَ أَخَذُوا يَمِيناً وَ شِمَالًا ظَعْناً فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ وَ تَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ وَ لَا تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِي ءُ بِهِ الْغَدُ فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَْ يُدْرِكْهُ وَ مَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَدٍ يَا قَوْمِ هَذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ وَ دُنُوٌّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَا تَعْرِفُونَ أَلَا وَ إِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ وَ يَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً وَ يُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً وَ يَصْدَعَ شَعْباً وَ يَشْعَبَ صَدْعاً فِي سُتْرَةٍ عَنِ النَّاسِ لَا يُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَ لَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ وَ يُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِمْ وَ يُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ(10/112)

31 / 151
ع
En
A+
A-