قالوا و ما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين ليس بحجة لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله ص لحاجتها إلى تعرف الأحكام بالسؤال و لم يكن غرضها التنقص. و اعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 68ص أخيك فهو غيبة فقد يكون ذلك باللسان و قد يكون بالإشارة و الإيماء و بالمحاكاة نحو أن تمشي خلف الأعرج متعارجا و بالكتاب فإن القلم أحد اللسانين. و إذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه و هجن كلامه فهو غيبة فأما قوله قال قوم كذا فليس بغيبة لأنه لم يعين شخصا بعينه. و
كان رسول الله ص يقول ما بال أقوام يقولون كذا فكان لا يعين و يكون مقصوده واحدا بعينه(10/58)
و أخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المراءين و ذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان و التبذل في طلب الحطام و قصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد و الشكر لله تعالى فيحصل من ذلك غيبة المسلم و يحصل منه الرياء و إظهار التعفف عن الغيبة و هو واقع فيها و كذلك يقول لقد ساءني ما يذكر به فلان نسأل الله أن يعصمه و يكون كاذبا في دعوى أنه ساءه و في إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته و لو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان. و اعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها حكاية يستخرج الغيبة منه بذلك و إذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة و الباعث على الاستزادة منها و قد روي أن أبا بكر و عمر ذكرا إنسانا عند رسول الله فقال أحدهما إنه لنئوم ثم أخرج رسول الله ص خبزا قفارا فطلبا منه أدما فقال قد ائتدمتما قالا ما نعلمه قال بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما فجمعهما في الإثم و قد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 69كان أحدهما قائ و الآخر مستمعا فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه و إن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك فإن قال بلسانه اسكت و هو مريد للغيبة بقلبه فذلك نفاق و لا يخرجه عن الإثم إلا أن يكرهه بقلبه و لا يكفي أن يشير باليد أي اكفف أو بالحاجب و العين فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يذب عنه صريحا
فقد قال رسول الله ص من أذل عنده مؤمن و هو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق
فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة(10/59)
و اعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على أمور منها شفاء الغيظ و ذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر فإذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه و سبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع و قد يمنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ. و منها موافقة الأقران و مساعدتهم على الكلام فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظن أنه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء و الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوئ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 70و منها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه و يطول لسانه فيه و يقبح حاله عند بعض الرؤساء أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبحاله فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه. و قد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك فيروج كذبه بالصدق الأول. و منها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه فيذكر الذي فعله و كان من حقه أن يبرئ نفسه و لا يذكر الذي فعله لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه و كيلا يكون تبرؤا مبتورا و ربما يعتذر بأن يقول فلان فعله و كنت شريكا في بعض الأمر ليبرئ نفسه بعض البراءة. و منها المباهاة و حب الرئاسة مثل أن يقول كلام فلان ركيك و معرفته بالفن الفلاني ناقصة و غرضه إظهار فضله عليه. و منها الحسد و إرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه لأنه يشق عليه ثناء الناس عليه و لا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه. و منها اللعب و الهزل و المطايبة و تزجية الوقت بالضحك و السخرية فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزء و المحاكاة. و اعلم أن الذي يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل القصد إلى تنقص الإنسان فقط(10/60)
و غض قدره فأما إذا خرجت مخرجا آخر فليست بحرام كمن يظلمه القاضي و يأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه فإن له أن يذكر حاله للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك
فقد قال ص مطل الغني ظلم
و قال لي الواجد يحل عقوبته و عرضه
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 71و كذلك النهي عن المنكر واجب و قد يحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره و رد القاضي إلى منهج الصلاح فلا بد له أن يشرح للغير حال ذلك الإنسان المرتكب المنكر و من ذكر الإنسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه كالأعرج و الأعمش المحدن لم يكن مغتابا إذا لم يقصد الغض و النقص. و الصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له كصاحب الماخور و المخنث و من يدعو الناس إلى نفسه أبنة و كالعشار و المستخرج بالضرب فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به و ربما تفاخروا بذلك و
قد قال النبي ص من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له
و قال عمر ليس لفاجر حرمة و أراد المجاهر بالفسق دون المستتر. و قال الصلت بن طريف قلت للحسن رحمه الله الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير مراقب هل ذكري له بما فيه غيبة فقال لا و لا كرامة له
طريق التوبة من الغيبة
و اعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها و التوبة منها هي الندم عليها و العزم على ألا يعود فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة فلا حاجة إلى الاستحلال منه بل لا يجوز إعلامه بذلك هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله لأنه لم يؤلمه فيحتاج إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام و في إعلامه تضييق صدره و إدخال مشقة عليه و إن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة وجب عليه أن يستحله و يستوهبه فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت و بقي ما يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص(10/61)
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14172- و من كلام له عأَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَ تُخْطِئُ السِّهَامُ وَ يُحِيلُ الْكَلَامُ وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ الْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ(10/62)