شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 81ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل قوله ع يصونون مصونه أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم و يفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي إظهاره و ذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع العارف من الأسرار و أهل هذا الفن يزعمون أن قو منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج و لأبي الفتوح الجارودي المتأخر أتباع يعتقدون فيه مثل ذلك. و الولاية بفتح الواو المحبة و النصرة و معنى يتواصلون بالولاية يتواصلون و هم أولياء و مثله و يتلاقون بالمحبة كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت و أنا متسلح فيكون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال أو يكون المعنى أدق و ألطف من هذا و هو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام كما تقول أنا أراك بقلبي و أزورك بخاطري و أواصلك بضميري. قوله و يتساقون بكأس روية أي بكأس المعرفة و الأنس بالله يأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر. قال و يصدرون برية يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء أي من أين ترتوون الماء. قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة و التهمة و لا تسرع فيهم الغيبة لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق. قال على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى أي على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى خلقتهم و خلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه
كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك له
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 82و قال ع كل ميسر لما خلق لهقال فعليه يتحابون و به يتواصلون أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله و ليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله لا للهوى و لا لغرض من أغراض الدنيا أنشد منشد عند عمر قول طرفة(12/67)
فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى و جدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبدو كري إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتوردو تقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المعمدفقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى لم أحفل متى قام عودي حبي في الله و بغضي في الله و جهادي في سبيل الله. قوله ع فكانوا كتفاضل البذر أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر يستصلح بعضه و يسقط بعضه. قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيدة و رديئة و هذبه التمحيص
قال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب
أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه. ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله و نصحه و وعظه و تذكيره و بالحذر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 83من نزول القارعة بهم و هي هاهنا الموت و سميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة. قوله فليصنع لمتحوله أي فليعد ما يجب إعدا للموضع الذي يتحول إليه تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها. قوله و معارف منتقله معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف مثل معاهد الدار و معالم الدار و منه معارف المرأة و هو ما يظهر منها كالوجه و اليدين و المنتقل بالفتح موضع الانتقال. قوله فطوبى هي فعلى من الطيب قلبوا الياء واوا للضمة قبلها و يقال طوبى لك و طوباك بالإضافة. و قول العامة طوبيك بالياء غير جائز. قوله لذي قلب سليم هو من ألفاظ الكتاب العزيز أي سليم من الغل و الشك. قوله أطاع من يهديه أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف و الناهي له عن المنكر. و تجنب من يرديه أي يهلكه بإغوائه و تحسين القبيح له. و الباء في قوله ببصر من بصره متعلقة بأصاب. قوله قبل أن تغلق أبوابه أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته. و الحوبة الإثم و إماطته إزالته و يجوز أمطت الأذى عنه و مطت الأذى عنه أي نحيته و منع الأصمعي منه إلا بالهمزة(12/68)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20884- و من دعاء كان يدعو به ع كثيراالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ(12/69)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 85قوله كثيرا منصوب بأنه صفة مصدر محذوف أي دعاء كثيرا و ميتا منصوب على الحال أي لم يفلق الصباح على ميتا و لا يجوز أن تكون يصبح ناقصة و يكون ميتا خبرها كما قال الراوندي لأن خبر كان و أخواتها يجب أن يكون هو الاسم أ لا ترى أنهما مدأ و خبر في الأصل و اسم يصبح ضمير الله تعالى و ميتا ليس هو الله سبحانه. قوله و لا مضروبا على عروقي بسوء أي و لا أبرص و العرب تكني عن البرص بالسوء و من أمثالهم ما أنكرك من سوء أي ليس إنكاري لك عن برص حدث بك فغير صورتك. و أراد بعروقه أعضاءه و يجوز أن يريد و لا مطعونا في نسبي و التفسير الأول أظهر. و لا مأخوذا بأسوإ عملي أي و لا معاقبا بأفحش ذنوبي. و لا مقطوعا دابري أي عقبي و نسلي و الدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا و يقال للهالك قد قطع الله دابره كأنه يراد أنه عفا أثره و محا اسمه قال سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ. و لا مستوحشا أي و لا شاكا في الإيمان لأن من شك في عقيدة استوحش منها. و لا متلبسا عقلي أي و لا مختلطا عقلي لبست عليهم الأمر بالفتح أي خلطته و عذاب الأمم من قبل المسخ و الزلزلة و الظلمة و نحو ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 86قه لك الحجة علي و لا حجة لي لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه و إقداره و إعلامه قبح القبيح و وجوب الواجب و ترديد دواعيه إلى الفعل و تركه و هذه حجة الله تعالى على عباده و لا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه و لا كان لهم لطف في أمر إلا و فعله. قوله لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني و لا أتقي إلا ما وقيتني أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمرا و لكنك الرزاق و لا أدفع عن نفسي محذورا من المرض و الموت إلا ما دفعته أنت عني. و قال الشاعر(12/70)
لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقي نوائب هذا الدهر أم كيف يحذريرى الشي ء مما يتقى فيخافه و ما لا يرى مما يقي الله أكثرو قال عبد الله بن سليمان بن وهب
كفاية الله أجدى من توقينا و عادة الله في الأعداء تكفيناكاد الأعادي فما أبقوا و لا تركوا عيبا و طعنا و تقبيحا و تهجيناو لم نزد نحن في سر و في علن على مقالتنا الله يكفيناو كان ذاك و رد الله حاسدنا بغيظه لم ينل مأموله فينا
قوله ع أن أفتقر في غناك موضع الجار و المجرور نصب على الحال و في متعلقة بمحذوف و المعنى أن أفتقر و أنت الموصوف بالغنى الفائض على الخلق. و كذلك قوله أو أضل في هداك معناه أو أضل و أنت ذو الهداية العامة للبشر كافة و كذلك أو أضام في سلطانك كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم في عدلك. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 87و كذلك قوله أو أضطهد و الأمر لك أي و أنت الحاكم صاحب الأمر و الطاء في أضطهد هي تاء الافتعال و أصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته و فلان ضهده لكل أحد أي كل من شاء أن يقهره فعل. قوله اللهم اجعل ني هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله ص و هي
قوله اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و اجعله الوارث منا
أي لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا و
كان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي و بصري إلى انتهاء أجلي(12/71)