المعرفة حياة القلب الله. و سئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء قال شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 75نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا صاروا إلى حقائق القرب و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك. و اعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية فقوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين المقام الأول الولاية و هو مقام جليل قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و
جاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه و لا ترددت في شي ء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لابد له منه(12/62)
و اعلم أن الولي له معنيان أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته. و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم و هو الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه. و من شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه و سيده كما أن من شرط كون النبي شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 76نبيا العصمة فمن ظن فيه أنه من الأولياء و يصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض فليس بولي عند أصحاب هذالعلم بل هو مغرور مخادع. و يقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل و تنخم في المسجد فانصرف أبو يزيد و لم يسلم عليه و قال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة كيف يكون أمينا على أسرار الحق. و قال إبراهيم بن أدهم لرجل أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم قال لا ترغب في شي ء من الدنيا و لا من الآخرة و فرغ نفسك لله و أقبل بوجهك عليه ليقبل عليك و يواليك. و قال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة و ادرعوا بالروح بعد المجاهدة بوصولهمإلى مقام الولاية. و كان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله و لا يرى العرائس إلا المحارم فهم مخدرون عنده في حجاب الأنس لا يراهم أحد في الدنيا و لا في الآخرة. و قال أبو بكر الصيدلاني كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه فيسرق ذلك اللوح فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فيسرق و تكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور فكنت أتعجب منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا و أنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه. و قال بعضهم إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة.(12/63)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 77و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي و لا ينافق و ما أقل صديق من يكون هذا خلقه. المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و المحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة. قال أبو يزيد البسطامي المحبة استقلال الكثير من نفسك و استكثار القليل من حبيبك. و قال أبو عبد الله القرشي المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شي ء و أكثرهم عى نفي صفة العشق لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة و البارئ سبحانه أجل من أن يوصف بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته. سئل الشبلي عن المحبة فقال هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحد غيرك. و قال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا و الآخرة
لأن النبي ص قال المرء مع من أحب
فهم مع الله تعالى. و قال يحيى بن معاذ حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء و لا يزيد بالبر. و قال ليس بصادق من ادعى محبته و لم يحفظ حدوده. و قال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب. و أنشد في معناه
إذا صفت المودة بين قوم و دام ودادهم سمج الثناء
و كان أبو علي الدقاق يقول أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب و الناس يتكلفون في مخاطبته و الأب يقول له يا فلان باسمه. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 78و قال أبو يعقوب السوسي حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله و ينسى حوائجه إليه. قيل للنصرآباذي ولون إنه ليس لك من المحبة شي ء قال صدقوا و لكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه. و قال النصرآباذي أيضا المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم أنشد و من كان في طول الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق و أكثر شي ء نلته في وصالها أماني لم تصدق كلمحة بارو كان يقال الحب أوله خبل و آخره قتل. و قال أبو علي الدقاق في معنى(12/64)
قول النبي ص حبك الشي ء يعمي و يصم قال يعمي و يصم عن الغير إعراضا و عن المحبوب هيبة ثم أنشد
إذا ما بدا لي تعاظمته فأصدر في حال من لم يره
و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك و مالك و ولدك ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا و جهرا ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته. و قال الجنيد سمعت السري يقول لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا. و قال الشبلي المحب إذا سكت هلك و العارف إذا لم يسكت هلك. و قيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب. و قيل المحبة بذل الجهد و الحبيب يفعل ما يشاء. و قال الثوري المحبة هتك الأستار و كشف الأسرار. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 79حبس الشبلي المارستان بين المجانين فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا محبوك أيها الشيخ فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي. كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد و لسانه خارج و يقول هل من مزيد. و من شعرهم في هذا المعنى
عجبت لمن يقول ذكرت ربي و هل أنسى فأذكر ما نسيت شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب و لا رويتو يقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا و الآخرة ملأته من حبي
و قال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا و حقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا
و قال عبد الله بن المبارك من أعطي قسطا من المحبة و لم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع. و قيل المحبة ما تمحو أثرك و تسلبك عن وجودك. و قيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف و أنشد
فأكسر القوم دور كأس و كان سكرى من المدير(12/65)
و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 8لي سكرتان و للندمان واحدة شي ء خصصت به من بينهم وحديو كان يحيى بن معاذ يقول مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب. و قال بعضهم من أراد أن يكون محبا فليكن كما حكي عن بعض الهند أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى فغمض التي لم تدمع أربعا و ثمانين سنة و لم يفتحها عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته. و أنشدوا في هذا المعنى
بكت عيني غداة البين دمعا و أخرى بالبكاء بخلت علينافعاقبت التي بخلت علينا بأن غمضتها يوم التقيا
و قيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري
و قيل المحبة إيثار المحبوب على النفس كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ و في الابتداء قالت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ فوركت الذنب في الابتداء عليه و نادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة و قال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام فقلت يا رسول الله اعذرني فإن محبة الله شغلتني عن حبك فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني.(12/66)